قبل 48 ساعة فقط من انعقاد جلستها الأولى في القضية التي عرفت باسم حكومة جنوب إفريقيا، اشتعلت النقاشات والمداولات والترتيبات لا بل المزاحمات والصراعات الدبلوماسية الحادة خلف ستائر وكواليس محكمة العدل الدولية.
ووجد الأردن باعتباره الدولة العربية التي قررت علناً مساندة الدعوة التي سجلتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بعنوان حرب إبادة على قطاع غزة، تحت ضغط سياسي ودبلوماسي شديد بدأ بحملة ضد وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي شخصياً من جهة رموز اليمين المتشدد في إسرائيل، وانتهى بما صرح به وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن مساء الثلاثاء في تصريح حاول خلط الأوراق قبل ساعات من انعقاد الجلسة الأولى للمحكمة الخميس.
وصف بلينكن الدعوة التي تقيمها جنوب إفريقيا بعبارة “لا أساس لها”.
وهذا الوصف أزعج الحكومة الأردنية في الواقع، ما دفع رئيس الوزراء الدكتور بشر الخصاونة لإعلان أن بلاده قررت تقديم مرافعات لدعم مسار القضية التي تقيمها جنوب إفريقيا.
وكان وزير خارجية الأردن قد أبلغ “القدس العربي” قبل ذلك بداية الأسبوع الأخير أن مرافعة أردنية ستقدم ضمن أصول ونظام المحكمة بصفة رسمية لدعم البينات التي تقدمها حكومة جنوب إفريقيا، ملمحاً إلى أن الأردن لن يستثني أي جهد في إطار الإصرار على وقف العدوان.
عمان بالمعنى القانوني، تحركت بتلك المرافعات وبصفتها تمثل دولة من 43 دولة وقعت على اتفاقية منع جرائم الإبادة وضمن خيار دبلوماسي قانوني.
ونقل عن مصادر مقربة من وزارة الخارجية الأردنية أن عملية التفحص والدراسة والتمحيص انتهت في الإطار القانوني، وأن الأردن في الحد الأدنى يتقدم في مرافعة قانونية خاصة تدعم شكوى جنوب إفريقيا ضمن بند المرافعات التي يسمح فيها للدول التي وقعت على اتفاقية الإبادة الجماعية أن تقدم مرافعات تعتبر من بينات الادعاء.
والمرافعة حسب الخبراء، هي الآلية المنتجة الوحيدة التي تعتبر معتمدة لإظهار الدعم السياسي للقضية المنظورة.
ويرى الأردن أن قرارات قمة الرياض الإسلامية العربية تشكل مسبقاً أساساً يمكن الاستثمار فيه لاحقاً عندما يتخذ قرار وتقرر الهيئة الدولية “إكمال التحقيق”.
الهدف هو بند “اتخاذ تدابير”
حكومة جنوب إفريقيا أبلغت بوضوح عبر بعثتها في لاهاي حيث مقر المحكمة، أنها تفضل الانفراد بتقديم سجلات وبيانات هذه الدعوى؛ بمعنى أنها لا تحتاج إلى خبرات الدول الإسلامية والعربية أو الأخرى، بحكم اهتمامها بأولوية استصدار قرار سريع اسمه قرار “تدابير وإجراءات”.
وهو القرار الذي يفترض أن محكمة العدل الدولية تصدره مباشرة إذا ما سمعت بينات تسجيل الدعوى والادعاء وقررت المضي قدماً في المرافعات والاستماع لكل الإفادات و”المرافعات الصديقة”.
ولعل المقصود في موقف جنوب إفريقيا وهي تفضل عدم إرهاق المحكمة في الجلسة الأولى في مرافعته لدول أخرى “شريكة في نفس الدعوى” والانفراد بالتفاصيل، هو الحصول على “تدبير وقائي”؛ بمعنى خطوة تقرر فيها المحكمة العليا “وقف الأعمال القتالية” ليس بسبب إدانة الكيان الإسرائيلي بارتكاب جرائم إبادة ولكن بسبب “تراكم الأدلة والقرائن” على أن الاستمرار في العملية العسكرية الحالية بقصف قطاع غزة يمكن أو يشتبه بأنه “سيؤدي إلى جرائم إبادة جماعية”، وهنا حصراً تبرز -حتى برأي الخبير القانوني الدولي الدكتور أنيس القاسم- أهمية بند “التدابير”.
وما تطالب به جنوب إفريقيا من حيث التدابير والوصول إلى هذه الصيغة هو قبول فكرة الاشتباه بوجود جريمة إبادة جماعية، ثم المطالبة بوقف الأعمال الحربية والعسكرية على هذا الأساس، والاستمرار طبعاً في التحقيق ببقية البيانات حتى يتم وقائياً “منع وقوع الجريمة”.
وما فهمته أوساط الخارجية الأردنية أن حكومة جنوب إفريقيا ترى في نفسها الكفاءة الكاملة بتقديم بينات وادعاءات تؤكد احتمالية شبهة كبيرة لحصول جرائم إبادة وبطريقة “مقنعة جداً للمحكمة”.
وهو أمر في حال تيقن ضمير للمحكمة العليا منه، يفترض أن يؤدي إلى تفعيل بند التدابير والإجراءات؛ بمعنى اتخاذ قرار سريع
من هيئة المحكمة بمنع الأعمال الحربية والعسكرية والقتالية، وهو الهدف السياسي الذي تخطط له حكومة جنوب إفريقيا في هذه المرحلة وترغب في عدم إعاقة وقت وجهد المحكمة بلوائح دول أخرى شريكة حتى تعتقد بضرورة التدبير المستعجل لا بل تقرره في جلسة الجمعة الثانية.
ماذا سيحصل؟
طبعاً لا توجد ضمانات من أي صنف بأن تقر المحكمة في جلستها الأولى المقبلة قبول الدعوى والتحقق من تفصيلاتها، ولا يوجد أيضاً ضمانات بأن تتخذ التدبير الوقائي الذي تعتقد جنوب إفريقيا أنها قادرة على اصطياده.
لكن في حالة اتخاذ ذلك القرار ونجاح الجهة المشتكية بالحصول عليه، تصبح الآنية الدولية بالتراتب هي الأساس في عملية إضافية معقدة سياسياً لكنها قانونية في الاعتبار الأول، وطبعاً ليست ملزمة لا للمجتمع الدولي ولا لإسرائيل، وإن كانت ستؤدي إلى محاصرتها سياسياً ودولياً.
وما تقوله المراجع المختصة هنا أن محكمة العدل الدولية إذا قررت قبول الدعوى ثم قررت اتخاذ التدابير، يمكنها أن تصدر إجراءات احترازية ووقائية بوقف الأعمال العسكرية.
وهو إجراء تملك الدولة المشتكية الحق بحمله فوراً، وبمجرد اتخاذ قرار “يوافق عليه” إلى مجلس الأمن على اعتبار أن قوة محكمة العدل العليا عابرة لهيئات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، مضطر للالتزام بما تقرره تلك المحكمة.
وإذا أخفق مجلس الأمن باتخاذ قرار يمكن – برأي الدبلوماسيين الأردنيين تحديداً- اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة.
نسخة عن أوكرانيا
ويعتقد بأن السيناريو الذي يخطط له اللاعب القانوني المختص، سواء في جنوب إفريقيا أو حتى في الأردن ولاحقاً بوليفيا، هو الاستفادة من حادثة مشابهة وجديدة في قضية تعاملت معها بسرعة وبصفة الاستعجال محكمة العدل الدولية بخصوص الغزو الروسي لأوكرانيا.
صدر قرار من المحكمة بإجراء وقائي يمنع حرب إبادة ثم قرار مماثل من مجلس الأمن أحبطته روسيا، وقرار ثالث من الجمعية العامة، ولكن في الحالات الثلاث تمكنت روسيا من إعلان رفضها لتطبيق هذا الإجراء الوقائي، وشكل رفضها “أداة مهمة” في تمرير عقوبات دولية وأممية عليها.
لذا، دخلت روسيا في سلسلة من العزلة الدولية على أكثر من نطاق.
وما يراه المختصون هنا أن الفرصة مواتية لاختبار نوايا الإدارة الأمريكية والدول الغربية من أن تتجه شكوى جنوب إفريقيا في المسار الأوكراني نفسه، مع العلم أن المؤشرات والبيانات التي تثبت – حسب مرجع أردني دولي تحدثت معه “القدس العربي”- وجود شبهة أعمال إبادة في قطاع غزة الآن أكبر بكثير من تلك التي قدمتها الدول الغربية بخصوص أوكرانيا وحصلت بموجبها على القرار المطلوب، ما يعني أن هيئة محكمة العدل العليا الدولية في ميزان دقيق يراقبه الجميع وينبغي أن تتخذ القرار الأسلم غير القابل للتشكيك والطعن، أما المقارنة في سجل قضية أوكرانيا فهي واحدة اليوم من أهم بينات الادعاء.
“دمغة”… خسائر إسرائيل
ما يقوله المختصون إن إسرائيل “قد تخسر فعلاً” هذه القضية، لكنها بكل حال ستعلن “إذا خسرت” أنها “لن تلتزم بها” ولا بقرارات مجلس الأمن التي يقود لها قرارا المحكمة، وفي حال فعلت إسرائيل ذلك فلا توجد “قوة قصوى” تجبرها أو تعاقبها، فيما القرار على أساس “تدابير” إذا اتخذ فعلاً سيصبح بمثابة “دمغة بسمعة سيئة” كونياً تحيط بإسرائيل في كل مكان.
ومفردة “دمغة” التقطتها “القدس العربي” من خبير دولي بارز لديه تصور بمستوى وحجم الخسائر التي ستحيق بإسرائيل وستحرج طبعاً حلفاءها أشد الإحراج، وسيصبحون “منعزلين” أو “أقل قدرة” مستقبلاً على مساندتها في المحافل الدولية.
النقطة الأهم أن درجة “إلزامية” أي قرار للشرعية الدولية مؤسس على قرار التدابير للعدل الدولية، تصبح أرفع شأناً وأعمق وأهم سواء في مجلس الأمن أو في الجمعية العمومية، وإن شرعية قرارات أممية ناتجة عن “إجراء تطالب به محكمة العدل العليا” تصبح هي الأساس في مداولات مستقبلية بخصوص الملفين الإسرائيلي والفلسطيني.
خلافاً لذلك، ما يميز قرار العدل الدولية بوجود “شبهة حرب إبادة” تتطلب قراراً بـ”بوقف الأعمال الحربية وفوراً” أن الطرف المتهم وفي حال إدانته بعد المرافعات، سيكون مضطراً للالتزام الحرفي بثمن وبدل مالي وتعويض نفسي لكل ما أو من “تضرر” من الإيحاء بأعمال الإبادة.
والمعنى هنا أن ثبات تهمة “الشروع بحرب إبادة” تلزم دولة الكيان الإسرائيلي بدفع “تعويضات” لكل الضحايا وعن “كل أصناف الأضرار” وبقوة القانون الدولي خلافاً لما يحصل في قضايا “الجنايات الكبرى” المرتبطة بمتهمين فردياً بارتكاب جرائم حرب.
ذلك قد يعني لاحقاً، قيوداً كبيرة عبر البنك الدولي والنظام المصرفي العالمي على التمويل والمنح والقروض، وقد يؤدي إلى تعقيدات في تمويل ودعم إسرائيل حتى من قبل الكونغرس وبقية الهيئات التشريعية أو المالية الغربية، الأمر الذي يؤشر على خسائر اقتصادية “حتمية” إذا ما صدر قرار بـ”وقف أعمال الحرب” ضد قطاع غزة “وقائياً”.
بقي القول إن “التدابير المستعجلة” ليست قراراً بإدانة إسرائيل، لكنها قرار بقبول الدعوى والتحقيق فيها وإكمال المرافعات، وهي مسألة تحتاج عاماً كاملاً على الأقل ولا تشكل هدفاً مباشراً في هذه المرحلة لأصحاب الدعوى الجنوب إفريقيين، فيما يقدر الخبراء أن هيئة المحكمة ليس شرطاً أن تقرر أي شيء في أول جلستين، بل معها سقف زمني حتى نهاية الشهر الجاري لاتخاذ قرار بصفة الاستعجال فكرته “هل قدمت الجهة الشاكية أدلة كافية للاقتناع بشبهة أعمال عسكرية تقود إلى حرب إبادة؟”.
ختاماً، كل الاحتمالات “السياسية” قائمة، ورغم صعوبة “تجاهل المحكمة” للبينات التي ستقدمها جنوب إفريقيا ووجود قدر من التفاؤل بالحصول على المطلوب فإن الجميع يترقب خلال الساعات القليلة المقبلة الحراكات المعترضة للخارجية الأمريكية لأنها “قد تحبط الأمر” فعلاً، وإن أدت إلى “كلفة كبيرة” لاحقاً.
تعليقات الزوار
انا لست جزائري
هزيمة 30 - 17 هي مقدمة أو عربون، و هي التكلفة الحقيقية على ذلك.