يتحدث تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» لمراسلها ديفيد بيرسون، عن علاقات الصين الخارجية خلال الشهور الأخيرة، حيث فرش الرئيس الصيني، شي جين بينج، السجادة الحمراء لنظيره البرازيلي لولا دا سيلفا، مشيدًا به بوصفه «صديقًا قديمًا للشعب الصيني»، وشارك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حفلة شاي في حديقة خضراء، ودعاه إلى حضور عرض موسيقي خاص باستخدام آلات موسيقية من التراث الصيني القديم، ولم ينس شي جين بينج أن يهاتف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة، مهنئًا إياه بحلول شهر رمضان المبارك.
ولكن في الوقت الذي بالغ فيه الرئيس الصيني في التودد والتقرب لزعماء العالم، كانت الصين تفعل العكس تمامًا مع الولايات المتحدة؛ إذ رفضت محاولات إدارة بايدن المتكررة لاستئناف المحادثات رفيعة المستوى، وتخفيف التوترات بشأن جزيرة تايوان، كما كثفت حكومة شي جين بينج حملات السخرية والانتقاد للولايات المتحدة والديمقراطية الغربية. هذا التقارب الصيني ومحاولات تعزيز العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة، في الوقت الذي تستمر فيه في استعداء واشنطن وتشويه سمعتها علنًا، يعكس موقفًا متشددًا من قبل بكين التي تخفِّض العلاقات إلى أدنى مستوياتها منذ عقود بسبب ما وصفه شي بأنه محاولات «احتواء واشنطن وتطويقها وقمعها» للصين.
بكين تولي ظهرها لواشنطن
يشير التقرير إلى تحليلات ترى أن هذا النهج المزدوج دليل دامغ على أن الرئيس الصيني يشارك وجهة النظر التي ترى أن التعاون بين الصين والولايات المتحدة غير مثمر، حاليًّا على الأقل، وهو ما عزز المخاوف من هذا المسار التصادمي بين القوتين العظميين، والذي يمكن أن يؤدي إلى حوادث خطيرة قد تصل إلى حد الحرب، سواء حول تايوان أو غيرها من نقاط الاشتعال الجيوسياسي.
لكن تلك الجهود الدبلوماسية الدؤوبة من قبل الصين تصدت لها واشنطن وبعض أقرب حلفائها مؤخرًا، حيث اجتمع كبار دبلوماسيي مجموعة السبعة في اليابان وتعهدوا بالتصدي للتوجهات الصينية. وإن كان الرئيس الصيني لا يزال يتلقى بعض ردود الفعل الدولية، التي كان يأملها هو ومسؤولون صينيون آخرون في الأشهر الأخيرة، مما أدى إلى تقويض بعض التحالفات التي تدعم النفوذ الأمريكي.
ويذكر التقرير أنه خلال اجتماع شي جين بينج مع لولا دي سيلفا، انتقد الأخير استمرار هيمنة الدولار الأمريكي على التجارة العالمية، قبل أن يجري زيارة إلى مركز أبحاث عملاق الاتصالات الصيني «هواوي»، التي تخضع لعقوبات أمريكية. في المقابل أشاد الرئيس الفرنسي ماكرون بـ«استقلالية» أوروبا، كما حذر أن تدفع الولايات المتحدة باتجاه الحرب في تايوان. كما مدح الأمير محمد بن سلمان «الدور البنَّاء» المتزايد للصين في الشرق الأوسط، وهو تعريض بالولايات المتحدة وعلاقتها المتوترة في المنطقة.
في الوقت ذاته، تستمر وسائل الإعلام الصينية الرسمية في انتقاد الهيمنة الأمريكية ومخاطرها، وتهاجم واشنطن بشأن حقوق الإنسان والعنصرية والعنف المسلح. كما استثمرت وثائق البنتاجون المسربة مؤخرًا لتسليط الضوء على كيفية تجسس واشنطن على حلفائها. ولم تألُ جهدًا في التهكم على عقد إدارة بايدن قمة حول الديمقراطية الشهر الماضي، واصفة الديمقراطية الأمريكية بأنها «مضطربة» و«فوضوية» و«في تدهور مستمر».
لماذا قرر شي جين بينج تحدي بايدن؟
يُرجع التقرير خط بكين المتشدد إلى إحباط الصين من التحركات الأمريكية خاصة فيما يتعلق بتايوان، الجزيرة الصغيرة التي تتمتع بحكم ذاتي والتي تعدها الصين جزءًا أصيلًا منها، وكانت رئيسة تايوان، تساي إنج ون، قد زارت الولايات المتحدة خلال وقت سابق من هذا الشهر والتقت كيفين مكارثي رئيس مجلس النواب. قبل أن تعلن تايبيه مؤخرًا أنها توصلت إلى اتفاق لشراء ما يقرب من 400 صاروخ أمريكي مضاد للسفن للمساعدة في مواجهة الغزو الصيني المحتمل. يضاف لذلك التدريبات العسكرية المشتركة، التي تعد الأكبر منذ عقود، والتي تجريها الولايات المتحدة مع الفلبين.
هذه التحركات «الاستفزازية» من ناحية واشنطن، فضلًا عن القيود الأمريكية المفروضة على صادرات أشباه الموصلات الدقيقة إلى الصين، بالإضافة إلى تنامي العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة والدول المحيطة بالصين مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، والهند، يزيد من الاستياء العميق الذي يشعر به المسؤولون الصينيون، ومن ثم تصير النداءات الأمريكية لتجديد التعاون الدبلوماسي (ومن ذلك مكالمة طال انتظارها بين الرئيسين) محاولات جوفاء تمامًا، وتقول وسائل الإعلام الرسمية الصينية إن المحادثات الرفيعة المستوى لا يمكن أن تستمر إلا بعد أن تُبدي الولايات المتحدة «نية صادقة من خلال إجراءات ملموسة».
«المسؤولية عن الإشكالات الحالية في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، لا تقع على عاتق الصين»، بهذا أجاب وانج وينبين، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، عندما سُئل مؤخرًا عن استئناف الحوار مع واشنطن واحتمالية تحديد موعد آخر لزيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى بكين، والتي علقت بعد قضية منطاد التجسس الصيني الذي ظهر في الأجواء الأمريكية في فبراير (شباط) الماضي، وأضاف المسؤول الصيني: «على الولايات المتحدة التوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية للصين ومحاولة الإضرار بمصالحنا، عليها التوقف عن تقويض الأسس التي تحدد علاقاتنا الثنائية».
ووفقًا للتقرير فإن إدارة بايدن تقول إنها تريد إقامة «خطوط حمراء» لمنع وقوع حوادث تنتج عن أي سوء تفاهم في المناطق المتنازع عليها مثل بحر الصين الجنوبي أو مضيق تايوان، حيث أجرت بكين مثلًا تدريبات بالذخيرة الحية ردًّا على زيارة تساي المذكورة. فبدون بروتوكولات وخطوط اتصال مباشرة بين الجانبين، يظل خطر وقوع تصادم قائمًا بشدة، حيث تسيِّر القوات الأمريكية والصينية دوريات منتظمة في المنطقة، غالبًا على مسافات قريبة.
ولكن وفق التقرير، تنظر بكين إلى هذه «الخطوط الحمراء» على أنها شكل آخر من أشكال الاحتواء الأمريكي، لأنها تكشف لواشنطن إلى أي مدى يمكن الضغط عليها دون أن يُقابل ذلك برد عسكري، تفضل الصين أن تظل «خطوطها الحمراء» غامضة وتترك للأمريكيين حرية التخمين، وكانت الصين قد علقت معظم الحوار العسكري مع الولايات المتحدة في أغسطس (آب) الماضي عقب زيارة رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي لتايوان.
هل تعود العلاقات بين البلدين إلى «سيرتها الأولى»؟
وذكرت وزارة الدفاع الأمريكية أن بكين رفضت مؤخرًا طلبات التواصل مع وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكيين. ولكن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، أبدى بعض التفاؤل بأن المحادثات رفيعة المستوى ستُستأنف مصرحًا: «أتوقع أننا سنكون قادرين على المضي قدمًا في ذلك». وذكر في حديث للصحافيين عقب اجتماع مجموعة السبعة في اليابان: «يجب على الصين توضيح نواياها بهذا الخصوص».
ينقل التقرير اعتقاد محللين بأن الرئيس الصيني، شي جين بينج، يعتقد على الأرجح أنه لا فائدة ترجى من التحدث إلى الرئيس بايدن في هذه اللحظة، خاصة وأن الآراء السلبية تجاه الصين متأصلة في الولايات المتحدة كثيرًا. حيث يرى كريج سينجلتون، وهو زميل بارز في مؤسسة غير حزبية للدفاع عن الديمقراطيات في الصين «شي يرفض بوضوح المشاركة (مع الأمريكيين) فقط من أجل المشاركة، ويراها فعلًا أحمق، لقد مضى وقت الكلام، ببساطة، ليس هناك عودة إلى الوضع السابق، يجب على الرئيس الصيني إعداد بلاده لمستقبل أكثر خطورة».
أما مينكسين باي، أستاذ السياسات الصينية في كلية «كليرمونت ماكينا» يرى أنه من الممكن أن تعاود بكين التعامل مع واشنطن بمجرد شعورها بزيادة نفوذها خاصة بعد تعميق علاقاتها مع دول مثل البرازيل، أو بعد تزايد الانقسامات في أوروبا حول مدى التبعية للموقف الأمريكي من الصين. حيث يرى باي أن «الصين تريد إشراك الولايات المتحدة من موقع قوة، ولكنها ليست في هذا الموقف الآن، بصراحة فإن استمرار نجاح واشنطن في حشد الحلفاء وشن حرب تكنولوجية ضد بكين يثبت أنها لا تزال أقوى بكثير من الصين ولديها المزيد من الأدوات يمكن أن تستخدمها».
من ناحية أخرى، تمارس الصين لعبة السير على الحبال، حيث تسعى من جهة إلى التهكم على الولايات المتحدة دبلوماسيًّا، وتحاول من جهة أخرى إقناع محافظي البنوك المركزية والمستثمرين بأنها منفتحة للعمل مجددًا بعد سنوات من الإجراءات الصارمة بسبب «كوفيد».
وقبل أيام قليلة، التقى يي جانج، محافظ البنك المركزي الصيني، مع جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، على هامش اجتماع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في واشنطن لمناقشة الشؤون الاقتصادية المشتركة. كما تخطط وزيرة الخزانة جانيت يلين ووزيرة التجارة جينا ريموندو لزيارة الصين. لكن كان لدى يي جانج، وفقًا للتقرير، ملاحظاته أيضًا؛ إذ انتقد الدول الغربية لتحويلها التجارة بعيدًا عن الصين، وتفضيلها لحلفائها التقليديين، حيث استخدم مصطلح «دعم الأصدقاء» في بيانه إلى «اللجنة المالية والنقدية الدولية».
ويختتم التقرير بأنَّ محللين صينيين يستبعدون تحسن العلاقات الصينية-الأمريكية في المدى القريب، حيث يقول وو شينبو، أستاذ الدراسات الدولية في جامعة فودان بشنجهاي، إن التقدم الطفيف الذي حققه الرئيسان الصيني والأمريكي بعد اجتماعهما في إندونيسيا نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قد تبدد تقريبًا بعد حادث المنطاد وزيارة رئيسة تايوان إلى واشنطن. ويعتقد شينبو أن واشنطن لا تمتلك حاليًّا لا الرغبة ولا القدرة على تحسين العلاقات، مضيفًا «من وجهة نظر بكين، وعلى الرغم من أن بايدن أظهر موقفًا جيدًا في بالي، فإنه لا يرغب بقوة في تحسين العلاقات الثنائية بين الصين وأمريكا».
تعليقات الزوار
لا تعليقات