تقف ليبيا مجددا على أعتاب نزاعات مسلحة جديدة على ضوء مؤشرات سلبية ووضع يزداد قتامة مع تفاقم الانسداد السياسي ودبلوماسية تبدو عاجزة في الدفع نحو تسوية سلمية للأزمة وهو أمر يبدو مفهوما إلى حدّ ما في ظل مشهد شديد التعقيد بمكوناته السياسية والميليشاوية وتعامل أقرب لمنطق الغنيمة من منطق الدولة في التعاطي أزمة لا تبدو لها نهاية قريبة.
وينظر لإجراء الانتخابات العامة كمخرج للأزمة، لكن حتى هذا الخيار السياسي لا يستند لأسس متينة حتى يمضي فيه فرقاء ليبيا بينما يتنازعون على شرعية يراها محللون واهية وزادت من حدة الانقسامات وألغت معها منطق المصلحة العليا ومنطق التوافق للخروج من المأزق.
وأصبح سيناريو الانزلاق إلى الحرب الأهلية الأقرب في ظل خلافات بين طرفي الأزمة وعناد يزيد الوضع القاتم قتامة وسوء.
وما يسلط الضوء على تلك الأخطار، تحرك قوات موالية لحكومة طرابلس هذا الأسبوع لمحاصرة اجتماع لهيئة تشريعية واندلاع موجة قتال دموية في أغسطس/آب الماضي وتحذيرات المشير خليفة حفتر من اندلاع حرب جديدة.
ومع تحذير المبعوث الأممي الجديد عبدالله باثيلي في أول تقرير له هذا الأسبوع من أن "بعض اللاعبين من المؤسسات يعرقلون التقدم صوب الانتخابات"، فلا توجد بوادر تُذكر على أي خطوة حقيقية نحو تحقيق سلام مستقر.
وقال عثمان القاجيجي الرئيس السابق للجنة انتخابات المجالس المحلية في ليبيا "لم يعد أحد يتحدث عن الانتخابات. اللعبة التي يلعبها القادة السياسيون دائما هي عرقلة المسار. كلها تكتيكات للتأجيل".
ويخشى الكثيرون في طرابلس من أن يزيد استمرار الجمود من فرص وقوع العنف، الذي اشتعل عدة مرات في العاصمة هذا العام ودائما ما ينذر بأن يتحول إلى صراع أوسع نطاقا.
وقال عادل الشيخ (39 عاما) وهو صاحب متجر في طرابلس "الأزمة بشكل رئيسي تطول بسبب من هم في السلطة. يسعون فقط لمصالحهم وليس مصالح الليبيين"، مضيفا أن الحل الوحيد هو إجراء انتخابات وطنية نزيهة "وغير ذلك لن نحظى بدولة مستقرة وبكل تأكيد ستكون هناك الكثير من الحروب".
ولن يؤدي احتمال تفاقم الصراع سوى إلى المزيد من المعاناة للمواطن الليبي العادي، إلا أن المخاطر كبيرة أيضا للعالم الغافل عن العواقب، فمن شأن تفجر الحرب أن يفتح مساحة جديدة للاحتكاك بين روسيا والغرب في البحر المتوسط ويؤدي لانخفاض إنتاج ليبيا النفطي البالغ 1.2 مليون برميل يوميا في خضم نقص عالمي في الطاقة ويتيح فرصة لانتعاش نشاط مسلحين إسلاميين ويغذي أزمة هجرة عالمية.
وقلّما شهدت ليبيا حربا مفتوحة منذ اتفاق وقف إطلاق النار عام 2020 الذي أنهى هجوما شنه حفتر على طرابلس، نتاج سنوات من الفرقة بين الفصائل التي برزت خلال انتفاضة عام 2011 التي دعمها حلف شمال الأطلسي والانقسام بين شرق البلاد وغربها في 2014.
وظاهريا، تتحدد ملامح الأزمة السياسية في ليبيا على أنها تدور حول خلافات بشأن الدستور النهائي للبلاد وقواعد الانتخابات المستقبلية وتقسيم الثروة على المناطق المختلفة وشكل الحكومة الانتقالية.
لكن الكثير من الليبيين لديهم شكوك في أنه لا يوجد طرف لديه اهتمام يُذكر بحل طويل الأمد للمشكلة، بالرغم من مظاهر تأييد الانتخابات التي تجهر بها تلك الفصائل لأنها كلها مستفيدة من الفوضى الراهنة.
وقد تذهب الانتخابات العامة بكثير من القوى السياسية المتناحرة التي سيطرت على ليبيا على مر سنوات من الانقسام المؤسسي والحرب الشاملة والسلام المتقلقل.
وفي طرابلس، يدير رئيس الوزراء عبدالحميد الدبيبة حكومة الوحدة الوطنية التي تم تنصيبها العام الماضي في عملية مدعومة من الأمم المتحدة للإشراف على فترة انتقالية قصيرة كان من المفترض أن تفضي إلى إجراء الانتخابات العام الماضي.
وتتعرض حكومته لاتهامات متكررة باستشراء الفساد بسبب تمتع سلطته بالقدرة على الوصول المباشر إلى إيرادات النفط عبر البنك المركزي والإنفاق على مشروعات تنموية يديرها حلفاؤه السياسيون. ويرفض الدبيبة تلك الاتهامات.
ورفض مجلس النواب في شرق ليبيا شرعية الدبيبة منذ انهيار العملية الانتخابية العام الماضي وسط خلافات حول لوائحها. ويؤيد البرلمان ذاته إدارة منفصلة بقيادة فتحي باشاغا ويحث على تنفيذ خطته الخاصة لإجراء انتخابات.
لكن ولاية مجلس النواب نفسه انتهت منذ سنوات، فيما يتهم منتقدون رئيس مجلس النواب عقيلة صالح بالتلاعب بالقواعد التشريعية لإصدار قوانين تهدف لتعزيز قاعدة سلطته وهو ما ينفيه هو الآخر.
أما المجلس الأعلى للدولة وهو مجلس تشريعي آخر يستمد سلطته من انتخابات جرت في 2012 واتفاق سياسي لم يتم أبدا تنفيذه بالكامل، فما زال يراوح مكانه بخصوص المسائل المطروحة، ويعرقل بذلك أي فرصة للتوصل لاتفاق.
وحتى لو لم ترغب النخب في تغيير الوضع الراهن من خلال تسوية سياسية طويلة الأمد، فلا يوجد ضمان ألّا تغيره بالعودة إلى رفع السلاح.
ولا يزال حفتر متوغلا في شرق وجنوب ليبيا وتنم خطاباته في الآونة الأخيرة والتي يبدو فيها أنه يهدد بحرب جديدة لو استمر الجمود السياسي، عن رجل يتطلع بقوة لتوسيع نطاق سيطرته إلى العاصمة.
وقال في خطاب يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول "نخوض المعركة الفاصلة من أجل التحرير، مهما كلفت من ثمن ومهما استغرقت من وقت"، مضيفا أن قيادات فاسدة لم يذكر أسماءها "لن تفلت من العقاب ولن تسمح القوات المسلحة بذلك".
وفي طرابلس نفسها وباقي مناطق الشمال الغربي، شتت وقف إطلاق النار المستمر منذ عامين شمل ائتلاف عسكري للفصائل المسلحة كان قد صد هجوم قوات حفتر.
واتضح ذلك في أغسطس/آب، عندما خاضت فصائل متنافسة أسوأ معركة في العاصمة على مدار سنوات مع محاولة باشاغا دخول المدينة. وعاد الأخير أدراجه وتم طرد القوات الموالية له من طرابلس مما عزز وضع الدبيبة هناك.
وأعطى القتال الذي شهدته طرابلس في الآونة الأخيرة الفرصة لمجموعة قوية واحدة أن تشدد قبضتها على الأرض لكن منافسيها لا يزال لهم وجود وقد يشنون محاولات جديدة للفوز بالسيطرة.
ومع استمرار وجود القوات التركية حول طرابلس وقدرتها على درء أي هجوم كبير على المدينة باستخدام الطائرات المسيرة، فإن المعارك بين المجموعات المتنافسة في الشمال الغربي تشكل أكثر شرارة محتملة لإشعال فتيل صراع أوسع نطاقا بتدبير من حفتر.
تعليقات الزوار
لا تعليقات