تستعد تونس للانتخابات التشريعية المقررة ليوم 17 ديسمبر بغاية الخروج من المرحلة الاستثنائية، في أجواء محتقنة تسببت فيها بالأساس الأزمتان الاقتصادية والاجتماعية وشعور الكثيرين بأن المسار السياسي للخروج من هذه المرحلة كان دون المأمول وأقل بكثير من سقف التوقعات. وبالتالي هناك شعور بالإحباط دب في أوصال الكثيرين ممن كانوا يأملون في حصول انفراج في الأوضاع في شتى المجالات يقطع مع العشرية الماضية التي كانت مخيبة للآمال وتراجع فيها البلد بشكل رهيب.
إن ماهو أكيد أن الحلقة تضيق أكثر فأكثر حول الرئيس قيس سعيد مع إنجاز كل استحقاق من استحقاقات خريطة الطريق التي وضعها بنفسه، وكذلك في كل مرة يتخذ فيها إجراء يتعلق بتسيير دواليب الدولة في المرحلة الاستثنائية. فالبداية كانت بالمرسوم عدد 117 الذي جاء بعد فترة وجيزة من 25 تموز/يوليو 2021 تاريخ حل حكومة المشيشي وتجميد البرلمان، حيث انفض كثير من أنصار 25 يوليو تموز بسبب استئثار الرئيس بالصلاحيات التنفيذية والتشريعية لنفسه.
وجاء حل المجلس الأعلى للقضاء وإعفاء عدد من القضاة لينفض عدد آخر من الموالين من حول الرئيس خاصة وقد اختلط الحابل بالنابل في القائمة المعلن عنها ووُضع الكل في سلة واحدة ضمت الفاسد ومن يعطل حسن سير مرفق عام العدالة مع من تعلقت به تجاوزات تهم حياته الخاصة. ولعل قرار المحكمة الإدارية الذي جاء مخالفا لإرادة السلطة التنفيذية يؤكد على أن الظلم قد طال فعلا عددا من القضاة بعد أن تم حشرهم مع من قيل أنهم «فاسدون» من أولئك الذين عطلوا النظر في الشكاوى الجزائية التي طالت منظومة العشرية الماضية.
كما ساهم إنجاز مشروع الدستور الجديد في بروز معارضين جدد للرئيس قيس سعيد سواء من الذين انتموا إلى اللجان الاستشارية ولم يقع الأخذ برؤيتهم عند صياغة الدستور الجديد أو من عموم مساندي مسار الرئيس في البداية والذين منوا النفس بنظام رئاسي ديمقراطي على الطريقة الأمريكية أو الفرنسية قطعا مع حالة اللااستقرار التي تسبب فيها النظام البرلماني، فإذا بهم أمام نظام رئاسوي شبيه بالأنظمة الديكتاتورية العربية لا يحاسب فيه الرئيس ولا يُساءل ولا يراقب، فيما كبش الفداء والشماعة التي تعلق عليها الأخطاء هي الحكومة التي يعينها بنفسه وتنفذ سياساته وتلتزم بقراراته. وقد علق البعض على ذلك بالقول ما الفائدة في العودة إلى نظام شبيه بما كان سائدا في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي بعد كل تلك التضحيات وكل تلك الفوضى وكل تلك الدماء التي أريقت وكل ذلك الخراب الاقتصادي والاجتماعي الذي طال البلد؟
كما ساهم المرسوم الانتخابي الجديد في زيادة السخط على مسار 25 يوليو من قبل بعض مساندي هذا المسار أنفسهم والذين وجهوا انتقادات كبيرة للمرسوم من بينها إرهاقه للمترشحين من خلال فرض عدد كبير من التزكيات ساهمت في بروز عمليات شراء ذمم بعد أن أصبح الأكثر مالا هو الأقدر على شراء أصوات المُزكين. فانتعشت الأحزاب الفاسدة التي تتلقى تمويلات من الخارج وانتعش أيضا قطاع المهربين وكذا الفئة الفاسدة من رجال الأعمال فعادوا إلى النشاط والحيوية واشتروا أصوات المُزكين وسيشترون لاحقا ذمم الناخبين كما كان يحصل خلال العشرية الماضية.
ووسط هذا المناخ غير السليم تأتي الهيئة المستقلة للانتخابات وتزيد في أجل تقديم الترشحات لثلاثة أيام بالتمام والكمال وهوما يمس من مبدأ المساواة الذي يعتبر من أهم المعايير الدولية للانتخابات الحرة والنزيهة. وبالتالي فإن استحقاق 17 ديسمبر تشوبه إخلالات كبيرة عبرت عنها بعض المنظمات المحلية المختصة في مراقبة الانتخابات والتي كانت قد نبهت في وقت سابق من إخلالات في المسار الانتخابي لسنة 2019.
مقاطعة الانتخابات
أكدت كثير من الأحزاب التونسية مقاطعتها لانتخابات 17 ديسمبر ولكامل المسار بداية من يوم 25 يوليو يوليو 2021 وأغلب هؤلاء من الذين اعتبروا حل قيس سعيد لحكومة المشيشي وتجميد البرلمان في تلك الليلة عملية انقلابية على الشرعية. لكن البعض يؤكد على أن عددا من هذه الأحزاب لن تقاطع الانتخابات وقد تقدم بالفعل مرشحون مقربون منها من غير الوجوه المألوفة إلى الهيئات الفرعية المستقلة للانتخابات بملفات ترشحاتهم دون الإعلان عن انتماءاتهم السياسية باعتبار أن نظام الاقتراع في تونس بات على الأشخاص وليس على القوائم الحزبية والمستقلة وبالتالي أصبح من السهل إخفاء الانتماء السياسي للمترشح وهو ما سهل العملية على هذه الأحزاب.
فالدوائر الانتخابية باتت صغيرة مساحة وسكانا بهذا المرسوم الجديد والسكان يعرفون بعضهم البعض بصورة جيدة وكافية لمعرفة الانتماء السياسي للمترشح حتى وإن حاول إخفاءه. وهناك حديث في عدد هام من الدوائر على أن أحزابا بعينها أعلنت مقاطعتها للانتخابات ولكامل المسار الذي أعلن عنه الرئيس قيس سعيد في وقت سابق لكنها قدمت مرشحين في دوائر بعينها.
وبالتالي يرجح البعض أن تسيطر على البرلمان القادم ثلاث قوى رئيسية هي الحزب الدستوري الحر وحركة النهضة وأنصار الرئيس قيس سعيد وسيختصر هذا الثلاثي المشهد السياسي التونسي المتنوع باعتبار العزوف المتوقع من قبل أغلب الملاحظين لأنصار التيارات السياسية الأخرى والذي ستشهده هذه الانتخابات. وستزيد من هذا العزوف حالة الاحتقان التي يعيشها التونسيون بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتي لم تجد طريقها إلى الحل رغم موافقة صندوق النقد الدولي على منح الخضراء نصف المبلغ الذي طالبت به في وقت سابق.
وتدعو أطراف في تونس إلى تأجيل الانتخابات باعتبارها لم تستوف شروط الإعداد لها وجاءت على عجل وستفرز بهذه الطريقة برلمانا لا يختلف عن سابقه خاصة وأن شرط التزكيات أرهق المترشحين وجعل الكثير منهم عاجزون عن جمعها في هذا الظرف القياسي وفي ظل دخول المال السياسي على الخط. والغريب أن عددا من الداعين إلى التأجيل هم من أنصار الرئيس قيس سعيد الذين يبدو أن بعضهم لم يستطع أن يجمع 400 تزكية التي اشترطها المرسوم الانتخابي ووجد هذا الشرط انتقادات واسعة إلى أبعد الحدود.
إن ما تجدر الإشارة إليه أن التونسيين لا يعيشون وحدهم في هذا العالم بل هم جزء من منطقة أورومتوسطية تروم دائما الاستقرار ولديها شركاء يضغطون باتجاه الخروج السريع من المرحلة الاستثنائية واستئناف الحياة الديمقراطية وبالتالي لا بد من احترام المواعيد الواردة بخريطة الطريق وعدم الذهاب نحو التأجيل. كما أن صندوق النقد الدولي اشترط لمنح تونس القسط الأول من القرض الموعود بعد أن تجرى الانتخابات في موعدها وأن يتعامل الصندوق مع بلد يعيش في وضع طبيعي ولديه برلمان يشرع القوانين ويصادق على الاتفاقيات الدولية.
زد على ذلك فإن تأجيل الانتخابات سيمسّ من صورة ومصداقية تونس في الخارج، حيث عرفت الخضراء على الدوام بأنها بلد رصين يحترم آجاله ومواعيده ويسدد قروضه في الآجال ولديه القدرة على حل مشاكله بنفسه دون رعاية دولية أو وساطات خارجية، وفيه طبقة سياسية متمرسة وليدة حركات إصلاحية ضاربة في أعماق التاريخ وهو ما جلب له الاحترام على الدوام من أصدقائه في كل أنحاء العالم. وينزعج التونسيون، الذين يهتمون كثيرا بما يقوله الخارج عنهم، إذا اهتزت هذه الصورة ويدركون أن تأجيل الانتخابات سيجعلهم مثارا للسخرية ممن هب ودب وسيصنفون في خانة أخرى ومع دول أخرى وهو ما لا يرغبون في حصوله.
لذلك ستُجرى الانتخابات في موعدها على ما يبدو ولا مجال لأي تأجيل وهو ما جعل الهيئة تمدد في آجال تقديم الترشحات بثلاثة أيام وفي أجل التسجيل بالنسبة للناخبين إلى أجل معتبر. وستشارك أطياف سياسية ادعت مقاطعتها وسيكون لها وجود مؤثر في البرلمان المقبل ولن يتغير الكثير في المشهد السياسي التونسي المألوف.
تعليقات الزوار
لا تعليقات