تطغى «لوبيات الاحتكار» على الأسواق طغيانًا كبيرًا في المغرب؛ إذ لكل قطاع في السوق لوبي اقتصادي يسيطر عليه، ويعمل دائمًا على تضخيم أرباحه بلا هوادة، وعرقلة أي تحركات قد تمس امتيازاته المالية.
تملك هذه اللوبيات نفوذًا يخوِّل لها التأثير في أجهزة الدولة نفسها، كالقضاء والبرلمان وإدارة المراقبة والتفتيش، من أجل الحفاظ على مصالحها. ومع أن المغرب يدَّعي تبنيه النهج الليبرالي في الاقتصاد، فإنه في الواقع لا وجود للبيئة التنافسية الحرة والشفافة التي تميز الأسواق الليبرالية، بل يسود الاحتكار في معظم القطاعات، من الاتصالات والإنترنت، إلى المحروقات والعقار والدواء، والمناجم والمقالع، وليس آخرها قطاع الصيد البحري، بل الماء أيضًا.
تسيطر على كل واحد من هذه الأسواق شركة أو بضع شركات متحالفة، وتتربح ملايين الدولارات على حساب أغلبية الشعب الفقيرة.
المحروقات والإنترنت والدواء في قبضة الاحتكار
يعد قطاع المحروقات أبرز مثال على السطوة التي تتمتع بها اللوبيات الاحتكارية في المغرب؛ إذ عملت الشركات المحتكرة لهذه السوق، وعلى رأسها شركة «أفريقيا» وشركة «فيفو» و«توتال»، على إبقاء ثمن البنزين مرتفعًا، حتى في عز هبوط الأسعار العالمية للنفط، ما يعني بديهيًّا أن الأسعار بالسوق الداخلية لا تخضع لتطور السوق الدولية وتغيراتها، رغم أن القطاع يخضع إلى السوق الحرة كما هو مفترض؛ وإنما تخضع لنزوات الشركات الخاصة المنضوية تحت هيكل «جمعية النفطيين بالمغرب».
اتُّهمت شركات المحروقات عام 2018، بمراكمة 17 مليار درهم من الأرباح التي «جنتها هذه الشركات بطريقة غير أخلاقية»، بعد تحرير قطاع المحروقات، وعقدت جلسة برلمانية من أجل استرجاع تلك الأموال، غير أن الأغلبية الساحقة من النواب صوتوا ضد مقترح قرار الاسترجاع.
أما شركات الأدوية بالمغرب، فتجبر المغاربة على شراء الأدوية بثمن أعلى مما يباع في أوروبا الغنية، وسبق للجنة المالية والاقتصادية بمجلس النواب أن خلُصت في تقرير لها، إلى أن أسعار الأدوية في المغرب «مرتفعة بشكل غير عادي عن الثمن الدولي، بحيث تفوق مثيلاتها في تونس مثلًا، وهو بلد مغاربي ذو إمكانات اقتصادية واجتماعية محدودة، بـ%30 إلى 189%».
الأمر نفسه ينطبق على مجموعات الاتصالات، التي تسيطر على قطاع الاتصالات والإنترنت، إذ يكتوي المواطن المغربي بنار فواتيرها المشتعلة مقابل خدماتها المتواضعة، وسبق للشركة المالية الدولية، التابعة للبنك الدولي، أن أشارت إلى الاحتكار التام الذي تمارسه شركة «اتصالات المغرب» في قطاع الهاتف الثابت وخدمة الإنترنت السلكي، وحذَّر تقرير لها من أن ذلك يعرقل تطور سوق الإنترنت والاتصالات بالمغرب.
وتستخدم اللوبيات الاقتصادية، التي تأتي عادة على شكل جمعيات منتظمة، مجموعة من التكتيكات لممارسة الاحتكار، مثل التواطؤ بالاعتماد بشكل جماعي على أسعار متفق عليها سلفًا، وسد الطريق أمام المنافسين الجدد سواء الأجانب منهم أو المحليين، وكذا تلجأ إلى ممارسة النفوذ على أجهزة الدولة لاستصدار قرارات تصب في صالحهم، ومنع مرور أي قوانين تمس بامتيازاتهم المالية.
- مقارنة بين نسبة الشركات الاحتكارية في السوق المغربية مقارنة بمصر والأردن وتونس ولبنان. (أزرق: احتكار تام، برتقالي: احتكار ثنائي، رصاصي: احتكار متعدد (من 2 إلى 5 شركات)، أصفر: شركات متعددة)
أضرار الاحتكار على الاقتصاد
تكمن خطورة الشركات الاحتكارية في قدرتها على تحديد الأسعار التي تناسبها كيفما شاءت، إذ عندما تغيب المنافسة يضطر المستهلكون إلى شراء المنتج أو الخدمة بأي ثمن، ومهما انخفضت الجودة، ما دام خيارهم الوحيد هو ما تقدمه هذه المجموعات الاحتكارية.
بالمقابل حينما تكون الأسواق حرة وتنافسية؛ يصب ذلك في مصلحة المستهلك؛ إذ تتنافس الشركات فيما بينها لتقديم أفضل الخدمات والمنتجات وبأرخص الأسعار.
لهذا السبب، نجد المواطن الأوروبي والأمريكي، الذي يضاعف دخله الفردي نظيره المغربي أضعافًا مضاعفة، يشتري الدواء والمواد الغذائية بثمن أقل مما تباع به للمستهلك المغربي.
يساهم الاحتكار أيضًا في نشر البطالة وتدني الأجور، فعندما تستحوذ قلة من الشركات على سوق معينة، تمنع بذلك ظهور الكثير من الشركات المنافسة التي كانت لتوفر الآلاف من فرص الشغل، وفي الوقت نفسه تدفع الأجور إلى القاع في غياب منافسين على العمالة. يوضح هذا الأمر بروفيسور الاقتصاد، سوريش نيدو، من جامعة كولومبيا، بقوله إن «الأسواق التي يسودها الاحتكار تعمل على تقليل أجور العمال، واستنزاف جهد أكبر منهم».
الأمر لا يقتصر فقط على إلحاق الضرر بالمستهلكين والعمال، بل أيضًا يصل ضرر الاحتكار إلى ميزانية الدولة نفسها، إذ تنخفض إيراداتها الضريبية نتيجة قلة الشركات المستثمرة، وتُستنزف خزينتها من احتياطي العملة الصعبة، من جراء تحويل أصحاب المجموعات الاحتكارية أموال الأرباح الطائلة إلى الخارج، فضلًا عن القلاقل الاجتماعية التي تخلقها هذه اللوبيات الاقتصادية من بطالة وغلاء أسعار وفوارق طبقية تقود أحيانًا إلى احتجاجات عارمة.
الابتكار بدلًا من الاحتكار
أدت عقود من الاحتكار في الأسواق المغربية إلى نشأة نخبة مغربية ثرية ثراء فاحشًا، منفصلة تمامًا عن واقع أغلبية الشعب المغربي، ترتع في مستنقع من الجشع والفساد، وليس لها أي اهتمام بالصالح العام. تمتلك اليد الطولى على 80% من المستهلكين المغاربة، بفضل شركاتها الاحتكارية، لكنها فشلت في تحسين حياتهم.
وبالموازاة مع ذلك، ازدادت عدم المساواة الاجتماعية، واتسعت الهوة بين الفقراء والأغنياء بشكل مهول. وظهر جليًّا خلال أزمة جائحة كورونا مدى انتشار الهشاشة في رقعة المجتمع المغربي.
يرى مراقبون أن هذه الجائحة ربما تشكل فرصة لرسم نموذج اقتصادي مغربي جديد، يقوم على العدالة ومحاربة الاحتكار، ويشجع الابتكار والتنافسية، وهو ما يوصي به تقرير البنك الدولي عن «المغرب في أفق 2040» الذي يدعو المملكة إلى «إطلاق عنان محرك الابتكار، بالعمل على تعزيز المنافسة ومحاربة الريع، وتشجيع المقاولة».
وتملك الحكومة المغربية العديد من الآليات لمحاربة الاحتكار، فقط تحتاج إلى مزيد من الجرأة والتفعيل، أبرزها مجلس المنافسة، وهي مؤسسة مستقلة تعنى بضمان الشفافية والإنصاف في العلاقات الاقتصادية، من خلال مراقبة الاحتكار ومحاربته.
وكما يقول الخبير الاقتصادي محمد ياوحي: «إذا لم يستطع مجلس المنافسة تغيير طبيعة الاقتصاد المغربي من اقتصاد يطغى عليه الريع، ويخدم مصالح فئة محدودة ومحظوظة، فإن أي مخطط تنموي سيبوء بالفشل لا محالة».
تعليقات الزوار
لا تعليقات