أخبار عاجلة

تسليم الهيشري إلى الجنائية الدولية يوسع دائرة الجدل في ليبيا

شهد ملف تسليم المواطن الليبي خالد محمد علي الهيشري إلى المحكمة الجنائية الدولية تطورات متسارعة خلال اليومين الماضيين، وسط تصاعد التباينات الداخلية بين من يعتبر الخطوة مساراً ضرورياً نحو إنهاء الإفلات من العقاب، ومن يصفها بأنها «اعتداء على السيادة الوطنية». ويأتي مثول الهيشري لأول مرة أمام الدائرة التمهيدية الأولى في لاهاي ليعيد تسليط الضوء على سجل الانتهاكات في سجن معيتيقة، وعلى الجدل الممتد منذ سنوات حول ولاية المحكمة الجنائية الدولية في ليبيا، وعلى مسؤوليات الحكومات الليبية المتعاقبة في التعاون مع المحكمة بموجب قرار مجلس الأمن القاضي بإحالة الوضع في ليبيا عام 2011.
وجاءت أولى ردود الفعل البارزة من منظمة العفو الدولية، التي وصفت عملية نقل الهيشري من ألمانيا إلى مقر المحكمة بأنها «خطوة بارزة نحو المساءلة في ليبيا». وقالت المنظمة في بيان رسمي إنها وثقت، خلال السنوات الماضية، انتهاكات مروعة ارتُكبت في سجن معيتيقة الخاضع لقوة الردع، مؤكدة أن جرائم القتل والتعذيب والاعتداءات الجنسية كانت تتم وسط إفلات تام من العقاب، على حد وصفها. ودعت المنظمة السلطات الليبية وكافة الدول الأطراف في نظام روما الأساسي إلى التعاون الكامل مع المحكمة الجنائية الدولية، معتبرة أن قضايا مثل قضية الهيشري تستدعي أعلى درجات الالتزام القانوني لضمان كشف الحقيقة وإنصاف الضحايا.
كما رحبت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بنقل الهيشري إلى مركز الاحتجاز في لاهاي، معتبرة أن مثوله الأول أمام المحكمة يمثل «خطوة مهمة نحو تحقيق العدالة للعديد من ضحايا الانتهاكات الجسيمة». وأشارت البعثة إلى أن المحكمة تشتبه في أن الهيشري ارتكب، أو أمر بارتكاب، أو أشرف على جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، شملت القتل والتعذيب والاغتصاب والعنف الجنسي بين عامي 2015 و2020، وهي الاتهامات نفسها التي تضمنتها نشرات المحكمة في الأشهر الماضية. وشددت البعثة على ضرورة التعاون الكامل من جانب السلطات الليبية، بما يشمل السماح للمحققين بالوصول الميداني وتنفيذ أوامر القبض المعلقة، معتبرة أن «المساءلة ركيزة أساسية لتحقيق سلام مستدام».
في المقابل، أصدر المجلس الاجتماعي لسوق الجمعة – النواحي الأربع بياناً شديد اللهجة أعلن فيه رفضه الكامل لتسليم الهيشري، معتبراً أن حكومة الوحدة الوطنية «فرطت في الولاية القضائية لليبيا» وقبلت بتفويض المحكمة الجنائية الدولية على حساب القضاء الوطني. ووصف المجلس الخطوة بأنها «جريمة وطنية تكرس الوصاية الخارجية»، مشيراً إلى أن القضاء الليبي قادر على تولي ولايته دون الحاجة لإحالة المواطنين الليبيين إلى محكمة خارج البلاد، وفق تعبيره. واتهم المجلس الحكومة بـ»الاستهداف الانتقائي لمنطقة سوق الجمعة»، وحذّر من «ردود فعل شعبية محتملة» قد تنجم عن استمرار الحكومة في هذا المسار. كما شكك البيان في «مشروعية الحكومة وتمثيلها السيادي»، في إشارة تعكس عمق الانقسام الداخلي حول تعامل ليبيا مع المحكمة الجنائية الدولية منذ أكثر من عقد.
وعلى المستوى القضائي الدولي، أكد الناطق باسم المحكمة الجنائية الدولية، فادي العبد الله، أن عملية اعتقال الهيشري تمت في ألمانيا بناء على أمر قبض محرز بالأختام صادر عن المحكمة في 10 يوليو 2025، وأن نقله إلى لاهاي جرى وفق الإجراءات القانونية المتعارف عليها. وصرّح العبد الله في أكثر من مناسبة لوسائل الإعلام الليبية أن الهيشري يعتبر من كبار مسؤولي سجن معيتيقة، وأن الأدلة الأولية تشير إلى مشاركته المباشرة في الانتهاكات الخطيرة التي ارتُكبت داخل السجن خلال الفترة الممتدة بين عامي 2015 و2020. وتشمل الاتهامات القتل تحت التعذيب، والاحتجاز القسري، والاعتداءات الجنسية، والاغتصاب، وهي انتهاكات سبق أن أشار إليها المدعي العام للمحكمة في تقاريره الأخيرة أمام مجلس الأمن.
وتنسجم هذه التطورات مع ما سبق أن تناولته تقاريرنا السابقة حول تحركات المحكمة الجنائية الدولية في الملف الليبي، خاصة منذ منتصف العام 2024 حين بدأت الدائرة التمهيدية الأولى إصدار أوامر قبض جديدة تستهدف شخصيات أمنية وعسكرية متهمة بارتكاب انتهاكات ممنهجة. وكانت تقارير سابقة قد تناولت أيضاً الاتهامات الموجهة إلى قيادات في سجون طرابلس وبنغازي، وتحديداً في سجن معيتيقة ومراكز الاحتجاز المرتبطة بقوات حفتر شرق البلاد، حيث باتت المحكمة تعتبر هذه الانتهاكات جزءاً من نمط أوسع من الجرائم الممنهجة المرتكبة ضد المدنيين والمحتجزين.
ومع مثول الهيشري أمام المحكمة في جلسته الإجرائية الأولى، جرى التأكد من هويته وإطلاعه على التهم الموجهة إليه، إضافة إلى مناقشة حقوقه القانونية، وهي خطوة تمهّد للمرحلة القادمة من الإجراءات، حيث ستتخذ المحكمة قرارها بشأن قبول الأدلة الأولية والانتقال إلى جلسات الاستماع اللاحقة. ويتوقع أن تستند المحكمة إلى شهادات ضحايا سابقين وتقارير حقوقية موثقة، إلى جانب الأدلة التي سلمتها سلطات الدول المتعاونة.
وتشير هذه التحولات المتسارعة إلى أن ملف الانتهاكات في ليبيا دخل مرحلة جديدة من التعامل الدولي، تستند إلى أوامر قبض فعلية وتنفيذ ميداني لها في أوروبا، بعد سنوات من الجمود في ظل رفض سلطات محلية التعاون مع المحكمة. كما أن هذا التطور يضع حكومة الوحدة الوطنية وبقية الأطراف الليبية أمام اختبار صعب، بين ضغوط المساءلة الدولية ومتطلبات السيادة الوطنية، في وقت لا تزال فيه المؤسسات القضائية الليبية منقسمة ولا تعمل ضمن منظومة موحدة.
وفي الوقت نفسه، يرى مراقبون أن قضية الهيشري قد تكون بداية لسلسلة إجراءات واسعة من المحكمة الجنائية الدولية تشمل شخصيات من مناطق مختلفة، ما قد يفاقم الانقسامات الداخلية إذا لم تُدار هذه الملفات بشكل قانوني وسياسي متوازن، خصوصاً مع استمرار الاتهامات المتبادلة بين طرفي الشرق والغرب بشأن الانتهاكات المرتكبة خلال السنوات الماضية.
وتبقى مسألة التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية جزءاً من الجدل الأكبر حول مستقبل العدالة الانتقالية في ليبيا، في ظل مطالبات الضحايا بالكشف عن الحقيقة، ومطالبات سياسية أخرى بحماية سيادة الدولة وإسناد المحاكمات للقضاء الوطني. وبين هذين الاتجاهين، يبدو أن قضية خالد الهيشري ستشكل اختباراً حقيقياً لمدى قدرة ليبيا على التوفيق بين الالتزامات الدولية ومتطلبات الاستقرار الداخلي في مرحلة تتسم بقدر كبير من الهشاشة والانقسام.

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات