أخبار عاجلة

قرقعة أواني الطعام تعلو طوابير «التكايا» وسط قطاع غزة

وسط طابور طويل من النساء والرجال والأطفال، امتد أمام إحدى «تكايا» الطعام وسط قطاع غزة، وقف أحمد غنّام، الطفل ذو الثلاثة عشر عامًا، يزاحم أقرانه ومن هم أكبر منه سنًا للحصول على وجبة طعام ساخنة، يملأ بها الوعاء الذي حمله من منزله وقطع به مسافة تزيد على الكيلومترين، على أمل العودة إلى أسرته ليكون وجبة الطعام الأساسية لهم في هذا اليوم.
أحمد، الذي وقف في هذا الطابور الطويل سريع الانفراط مع بدء عملية التوزيع، عندما يتزاحم الجميع أمام منضدة كبيرة توضع عليها الأواني، ليغرف أحد العاملين مما في القدر ويفرغه في الأواني التي يُسمع لها صوت قرع عند اصطدامها ببعضها بعضًا خلال التزاحم، اعتاد على هذا المشهد كغيره من السكان منذ بداية الحرب، ولا يزال يواظب عليه في فترة التهدئة، فالظروف التي تمر بها أسرته، كأغلب أسر قطاع غزة، لم تتغير بالمطلق.
يقول هذا الطفل لـ«القدس العربي»، الذي توقف والده عن العمل مع بدء الحرب، إن وضعهم الاقتصادي سيئ ولم يطرأ عليه أي تغيير. وقد بدا ذلك على ملابس الطفل المهترئة، التي رغم تدني درجات الحرارة مع حلول منخفضات الشتاء، لا تقيه برد الطقس.
بعد مكابدة طويلة نجح أحمد في الحصول على وجبة من «شوربة العدس»، ملأ بها الوعاء. قال والابتسامة قد بدّدت الضيق الذي كان ظاهرًا عليه خلال فترة الانتظار: «اليوم راح نتغدى عدس».
ويشير إلى أن أسرته تعاني كثيرًا في اليوم الذي لا تعمل فيه «تكية» الطعام، أو لا يتمكن فيه من الحصول على الوجبة الساخنة لنفادها قبل أن يصل إليه الدور. ويختم أحمد كلامه، وعيناه تنظران إلى الأرض: «نفسي الحياة ترجع زي قبل الحرب». قالها وغادر على عجل، فهناك من ينتظر ما يحمله بيديه.
ويمكن مشاهدة هذه الطوابير التي تقف أمام «التكايا» في عدة مناطق في قطاع غزة، بسبب العدد الكبير للنازحين والسكان الذين يشتكون من الجوع، ولا يستطيعون شراء الطعام.
هذا الأمر أيضًا عبّرت عنه لـ»القدس العربي» رباب. ع (54 عامًا)، وهي سيدة تقيم مع أسرتها في خيمة نزوح بعد أن دُمّر منزلها الواقع حاليًا خلف «الخط الأصفر» في المنطقة الشرقية وسط قطاع غزة. فمنذ فترة نزوحها الأخيرة في مخيم النصيرات قبل سبعة أشهر، لم يتغير عليها الحال. وتضيف، وقد ظهر الضيق على ملامحها وغيّر نبرة صوتها: «شو بدنا نعمل، الوضع كل يوم بيزيد صعوبة، والتهدئة ما غيّرت إشي في حياتنا».

أحلام تذوق اللحم

وتتحدث هذه السيدة، التي ترعى مع زوجها أسرة كبيرة مكونة من 12 فردًا، عن الواقع الأليم، حيث لم تُنهِ التهدئة ارتفاع أسعار السلع، ولم تشهد بعد أكثر من شهر على مرورها تدفقًا كبيرًا للمساعدات.
وتقول إن أسرتها لم تحصل سوى على صندوق من الكرتون مصفوف داخله أطعمة معلبة وبقوليات، وطرد من الخضروات.
ولم تكن تلك المساعدات تكفي أسرتها الكبيرة سوى لأقل من أسبوع، ما يضطرها للحضور أو إرسال أحد أفراد الأسرة إلى هذه «التكية» أو غيرها القريبة من مكان سكنها يوميًا، لتوفير الوجبة الأساسية.
وتحدثت بحرقة عن أطفال الأسرة الذين يشتهون تناول اللحوم، وتشير إلى أن آخر مرة تذوقت فيها الأسرة وجبة تحتوي على قطع من اللحم الأبيض كانت في تموز / يوليو الماضي عن طريق فريق إغاثي، وتشتكي من ارتفاع ثمن اللحوم الحمراء، حيث يباع الكيلو بأكثر من 20 دولارًا، ما يحرم أطفالها من تناولها.

وكان أوتن بينر، المسؤول في مكتب برنامج الأغذية العالمي، قال إن ارتفاع أسعار المواد الغذائية في غزة يجعلها بعيدة عن متناول معظم الناس، مشيرًا إلى أن الكثير من الناس يعتمدون على المساعدات والطرود الغذائية. ونقل شهادة امرأة غزية قالت إنها تشعر وكأن جسدها بالكامل يصرخ طلبًا لأنواع مختلفة من الطعام غير الطعام المعلب والحصص الغذائية الجافة التي يعيش عليها الناس. كما نقل شهادة امرأة أخرى التقاها في خان يونس، قالت إنها لا تأخذ أطفالها إلى السوق حتى لا يروا كل الطعام المتوفر، لعدم قدرتها على تحمل التكلفة، وأنه إذا اقتربوا من السوق تطلب منهم تغطية أعينهم.
وتؤكد الجهات الفلسطينية وكذلك منظمات الإغاثة الدولية أن إسرائيل لم تلتزم بالبروتوكول الإنساني الذي ورد في اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ يوم العاشر من الشهر الماضي، والذي ينص على إدخال 600 شاحنة مساعدات يوميًا.
ويوضح المكتب الإعلامي الحكومي أنه بسبب القيود الإسرائيلية لا يدخل القطاع سوى 170 شاحنة يوميًا. وفي تحليل للمكتب الإعلامي، ردًا على ادعاءات «منسق» حكومة الاحتلال حول إدخال المساعدات لغزة، أوضح أن 58% فقط من سكان قطاع غزة يحصلون على وجبة واحدة يوميًا، فيما هناك 42% من السكان لا يحصلون على أي وجبة.
ويشير «مركز الميزان لحقوق الإنسان» إلى أن نحو 80% من الشاحنات التي يسمح لها بالدخول مخصصة للتجار وليست للإغاثة، وتُباع حمولتها بأسعار مرتفعة جدًا يعجز المواطنون عن تحملها في ظل الفقر المدقع، في وقت تمارس فيه إسرائيل «ابتزازًا علنيًا» بحق التجار يدفع ثمنه السكان في قطاع غزة، إذ تفرض رسومًا باهظة على الشاحنات التجارية. ويؤكد المركز الحقوقي أن الوضع في قطاع غزة لم يتغير بعد دخول اتفاق التهدئة حيز التنفيذ.
ويشابه حال طالبي الطعام من «التكايا» في وسط القطاع حال السكان النازحين في مناطق مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة. فالناشط في مجال الإغاثة سامي طه يقول إن الواقع الأليم لا يزال على حاله، فأعداد النازحين الذين يطلبون الطعام من «التكايا» لم تتغير. بل يؤكد أنه يشهد في بعض الأيام زيادة تفوق قدرة الكثير من «التكايا». ويشير إلى أن المطبخ المجتمعي الذي يشرف على إدارته تنفد محتوياته من الطعام قبل أن تمتلئ جميع الأواني التي يلوّح بها الجائعون الذين يقدمون على أمل العودة بوجبة تملأ بطون أطفالهم. ويقول إن هذا الأمر يشعر جميع العاملين في «التكية» بالحسرة، حين يرون أمهات ينفجرن بالبكاء ورجالًا يحبسون دموع الألم، أو أطفالًا ذاقوا مشقة الطريق وعادوا خماصًا كما قدموا.
وتقدم هذه «التكايا» وجبات ساخنة، هي عبارة عن العدس، أو المعكرونة، أو الفاصوليا أو الأرز. وتعاني «التكايا» من نقص كبير في المواد الغذائية، لعدم وصول المساعدات اللازمة إليها، مع استمرار السلطات الإسرائيلية في التحكم بالمعابر وعدم التزامها بالبروتوكول الإنساني، ما يؤثر على قدرتها على تقديم الطعام للجميع.
وفي ظل أزمة الفقر التي خلفتها حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، أصبح الاعتماد على «التكايا» كبيرًا جدًا، وباتت هذه المطابخ المجتمعية مصدرًا أساسيًا للحصول على الغذاء في غزة.
وتوضح وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” أنه بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية في غزة، بات 90% من سكان القطاع يعتمدون بالكامل على الإغاثة، في وقت لا يحصل فيه كثيرون إلا على وجبة واحدة فقط كل 24 ساعة.

وضع كارثي

وتؤكد الأمم المتحدة أن هناك عوائق متعددة تعيق قدرة منظماتها الإغاثية على توسيع نطاق الاستجابة بالسرعة والكفاءة اللازمتين في غزة.
ويقول المتحدث باسم «الأونروا» عدنان أبو حسنة لـ»القدس العربي» إن الوضع الإنساني في قطاع غزة لا يزال كارثيًا رغم وقف إطلاق النار، حيث تواصل السلطات الإسرائيلية وضع القيود على إدخال البضائع للمنظمات الإغاثية، في وقت تُمنع فيه منظمته من إدخال أي مساعدات للقطاع. ويشير إلى وجود كميات مساعدات لدى «الأونروا» تكفي سكان غزة لعدة أشهر، ومؤكدًا أن السماح لهم بإدخال هذه الكميات عبر المعابر التي تتحكم فيها إسرائيل سيساهم في تخفيف أزمات السكان.

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات