اختصر وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي المغربي، محمد سعد برادة، أعطاب التعليم في المسافة الفاصلة بين الطلاب والمدارس، مستشهدًا بتجربته الشخصية، مؤكدا أن والده أرسله إلى “بلاد بعيدة” لإكمال دراسته. ونصح المسؤول الحكومي بعض الأسر بضرورة متابعة المدرّس الجيد مهما كانت المؤسسة بعيدة عن مكان السكن.
التصريح المثير للجدل ورد خلال لقاء حزبي، وكان موضوع مقطع فيديو جرى تداوله على نطاق واسع، تحدّث فيه الوزير عن التعليم العمومي وتلاميذ الأرياف، داعيا الآباء إلى نقل أبنائهم إلى أفضل المدارس، ولو كانت بعيدة، حتى لو اضطروا إلى الاشتراك في المواصلات المدرسية.
ويرى المسؤول الحكومي أن على الأسر تغيير مدارس أبنائها من العادية إلى “مدارس الريادة”، لأنها تقدّم أفضل تعليم، حتى وإن كانت بعيدة عن البيت. وما زاد الطين بلة، حديث برادة عن المدرّسين، الذين قال إن “أكفسهم” أي (الأقل كفاءة)، يوجدون في القرى، ويشتغل خمسة أو ستة منهم مع 46 تلميذا، بسبب اعتبارات انتخابية.
وردّ منتقدون على كلام الوزير بأن المواطن الذي يدرّس أبناءه في التعليم العمومي، لا يمكنه أن يختار المدرسة التي يتلقن فيها أبناؤه الدروس، كما لا يمكنه أن يختار مدرّسين بعينهم، لأن تلك مهمة موكلة إلى الإدارة.
الوزير الذي لم يجف بعدُ حبر الانتقادات الموجّهة إليه على خلفية صفقات الأدوية مع وزارة الصحة، أغضب فئة كبيرة من المجتمع المغربي، وهي فئة المدرّسين وأولياء أمور الطلاب، ونالت تصريحاته أيضا نصيبا كبيرا من التدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي.
ويرى الغاضبون أن تصريحاته تدلّ على أن الحكومة تعتبر المدرسة العمومية عبئا مفروضا عليها حمله، وليس واجبا وحقا دستوريا أو استثمارا في مستقبل الوطن. كما اعتبروا كلامه اعترافا ضمنيا بفشل الحكومة في ضمان تعليم عمومي قريب ومنصف وذي جودة، وتحويل المدرسة إلى امتياز طبقي، وموت فكرة العدالة المجالية التي دعا إليها الملك في خطابه الموجّه إلى نوّاب الأمّة في افتتاح البرلمان.
ويرى مراقبون أن هذه الزلة التي وقع فيها الوزير برادة قد تكون أكبر من سابقاتها، باستثناء “ورطة” الصفقات، إذ سبق أن كان موضوع سخرية واسعة بعد تعبير “النجوح” الذي قصد به النجاح، ناهيك عن عدة عثرات في اللغة العربية، بسبب تكوينه الفرنسي.
ويبدو أن الوزير برادة وطئ أرضا ملغومة، فقطاع التعليم في المغرب يشهد تجاذبات عدة، تربوية وتأطيرية واجتماعية واقتصادية، مع تصاعد حدّة الاحتجاجات في كل مناسبة وعند كل موسم مدرسي جديد لأي سبب كان.
الفيديو الذي تضمن هذه التصريحات سارع حزب “التجمّع الوطني للأحرار” إلى سحبه بعد الضجة التي رافقته، واعتبرته بعض المواقع الإخبارية نوعًا من “التبرؤ” من كلام الوزير المنتمي إلى الحزب نفسه. كما أكدت وسائل الإعلام أن الزلة جاءت في سياق “إشهار رديء” لمدارس الريادة، التي أثير حولها الكثير من الجدل.
ورغم أن ما قاله الوزير كان في إطار حزبي ولا يعتبر تصريحا رسميا لسياسة الوزارة، فإنه وفق العديد من المتتبعين، يكشف طريقة تفكير حامل حقيبة التعليم، وكيف يرى إمكانيات إخراج القطاع من عنق الأزمة.
وتحوّل الجدل الذي توزّع بين “مدارس بعيدة” وانتقادات لاذعة، إلى سخرية واسعة، ودخل الذكاء الاصطناعي على الخط، حيث جرى إنجاز مقاطع فيديو تظهر عددا من المواطنين في الأرياف وهم يسحبون أو يجرّون منازلهم بحبال إلى مكان تواجد المدارس، كما ظهر قرويون ينقلون “قريتهم” قرب المدرسة، في إشارة إلى أن المسافة البعيدة التي تحدّث عنها الوزير موجودة أصلا.
وتلخصت الانتقادات التي وجّهتها نقابات وجمعيات وبرلمانيون في أن تصريحات الوزير تعكس اعترافا رسميا بتفاوت صارخ بين المدارس داخل منظومة التعليم العمومي، حين اقترح بشكل صريح أن بعض المدارس “قريبة لكنها ضعيفة”، في حين أن “مدارس الريادة” هي وحدها التي تستحق التوجيه، رغم بُعدها.
كما اعتبر المتابعون أن تصريحاته تكرّس فكرة “مدرستين”: واحدة ممتازة لمن يقدر الانتقال ويربح، وأخرى ثانوية لمن لا يستطيع، وهو ما يشكل انتهاكا لمبدأ تكافؤ الفرص. كما أشاروا إلى الإساءة لمهنية الكوادر التربوية في المناطق القريبة، عندما وصف مدارس القرب بأنها “ضعيفة” أو أساتذتها بـ “المكفسين” (أي الأسوأ)، رغم أن هؤلاء المدرّسين غالبا ما يعملون في ظروف صعبة وبمجهود كبير.
وفي رأي المتتبعين، ينقل الوزير عبء الخلل من الوزارة إلى الأسر، عوض إصلاح المنظومة أو تحسين كل المؤسسات، مطالبا الأسر بالبحث عن “مدرسة جيدة” حتى لو كانت بعيدة، وهي مسؤولية لا ينبغي تحميلها للفرد.
وترى النائبة البرلمانية فاطمة التامني عن حزب “فدرالية اليسار الديمقراطي” المعارض أن تصريحات الوزير تكشف ثلاث حقائق خطيرة: أولها “فشل الحكومة في توفير تعليم عمومي قريب ومنصف وذي جودة”، وثانيها “تحويل المدرسة إلى امتياز طبقي يفرّق بين من يملك وسائل التنقل والمال ومن لا يملك”، وثالثها “ضرب مبدأ العدالة المجالية، حيث أصبح المواطن مطالبًا بالبحث عن حقه في مكان آخر بدل أن يجده حيث يقطن”.
وأعادت هذه “الزلة” الجدل حول “مدارس الريادة” إلى الواجهة، إذ أشار بعض المنتقدين إلى أن هذه المدارس، التي يريد الوزير جعلها ناجحة، تعاني من أزمات حقيقية، مثل نقص الكتب والمقررات، ما ترك الطلاب دون موارد لأسابيع، وضعف البنية التحتية ونقص التجهيزات والموارد البشرية، وأحيانا غياب مدير دائم، ما يتناقض مع شعار “الريادة”.
وكشفت الردود عن مطالب بالإصلاح الحقيقي، حيث دعت إلى إعادة تقييم جدية خطاب الوزير، واتخاذ خطوات إصلاحية تشمل: تحسين جودة التعليم في كل المدارس، وتوزيع عادل للموارد البشرية والتجهيزات في المدن والقرى، وضمان تكافؤ الفرص لكل الطلاب بغض النظر عن مكان الإقامة، وإعادة الثقة في المدرسة العمومية عوض تكريس انقسام بين تعليم “متميز” وتعليم “ثانوي”.

تعليقات الزوار
لا تعليقات