أثار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زوبعة أخرى جديدة تصب المزيد من الزيت على نيران علاقات جزائرية ــ فرنسية لا يخمد أوارها حتى يعاود الاشتعال، فلا تتأزم الملفات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية والثقافية وحدها، بل تضرم الحرائق أولاً في ذاكرة مأساوية سجلت 132 سنة من فظائع وجرائم حرب ومجازر ارتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائر بلد المليون شهيد.
فخلال تصريحات أمام المؤتمر السنوي لسفراء فرنسا في الخارج، تطرق ماكرون إلى قضية اعتقال الكاتب الجزائري بوعلام صنصال، معتبراً أن الجزائر «منعت شخصاً مريضاً من أن يحصل على العلاج، وهذا لا يشرف الجزائر». وكانت السلطات الجزائرية قد أوقفت صنصال في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي استناداً إلى المادة 87 مكرر من قانون العقوبات حول التضليل والمساس بالوحدة الوطنية والإدلاء بتصريحات من شأنها المساس بوحدة البلاد، إذ سبق له التصريح بأن أجزاء من الجزائر كانت في الأصل تتبع لدولة أخرى، وأن البلد لم يمتلك أي كيان قبل الاستعمار الفرنسي.
وبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع قرار توقيف صنصال، وما إذا كان ممارسة سيادية للقضاء الجزائري أو مساساً بحق التعبير عن الرأي، فإن ماكرون تعمد الانتقاص من شرف الجزائر على خلفية أولى هي منع الكاتب الجزائري من العلاج، وهذا غير صحيح لأن صنصال نُقل بالفعل إلى المستشفى عملاً باللوائح الداخلية للسجون في الجزائر. الخلفية الثانية هي ما ذهب إليه ماكرون من أن صنصال «مناضل من أجل الحرية» وهذا بدوره توصيف لا ينطبق على شخصية كاتب حملت كتاباته مضامين معارضة مألوفة تتكرر لدى الكثير من كتّاب الجزائر.
ويصعب بالطبع عزل تصريحات ماكرون الأخيرة عن التأزم الذي شهدته العلاقات الجزائرية ــ الفرنسية منذ تموز/ يوليو الماضي، بعد قرار الرئيس الفرنسي الاعتراف بالمقترح المغربي حول الحكم الذاتي في الصحراء الغربية. وهذه مناخات مرتبطة موضوعياً بما سبق أن أثاره الرئيس الفرنسي من غضب جزائري شعبي ورسمي في خريف 2021 حين جزم بأن الأمة الجزائرية لم تكن قائمة في التاريخ، والاستعمار الفرنسي هو الذي أوجدها.
ومن جانب آخر، ليس خافياً أن ماكرون لا يطلق هذه التصريحات الإشكالية بعيداً عن سياقين متلازمين على الساحة الداخلية الفرنسية، أولهما الأزمة السياسية والبرلمانية التي تسبب بها الرئيس الفرنسي حين تسرع في حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان) تحت وطأة خسارة نكراء مُني بها حزبه في الانتخابات الأوروبية، متوهماً إضعاف اليمين واليسار معاً فانتهى إلى مجلس عالق بلا أغلبية. السياق الثاني هو دغدغة اليمين الفرنسي المتطرف الذي لم يبرأ من أمراض الحنين إلى أزمنة استعمار الجزائر، واعتبار كراهية الإسلام أفضل سجايا صنصال التي تستوجب الدفاع عنه.
والشطط الذي ذهب إليه الرئيس الفرنسي مؤخراً بصدد توقيف صنصال، يعيد التذكير بمفارقة تراجع باريس عن التزامها بقرارات المحكمة الجنائية الدولية حول توقيف مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، فالثاني عند ماكرون يتمتع بالحصانة والأول مناضل من أجل حرية التشكيك في تراب بلده الوطني.
تعليقات الزوار
لا تعليقات