أصدرت الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بتونس كما هو معلوم حكماً بالإعدام بحق 4 أشخاص بعد إدانتهم في جريمة اغتيال زعيم حزب الوطنيين الديمقراطيين شكري بلعيد، وحكمت أيضا بالسجن المؤبد على شخصين بتهمة المشاركة في الاغتيال. كما صدرت أحكام بالسجن تتراوح بين سنتين و120 سنة بحق متهمين آخرين، فيما تم الحكم بعدم سماع الدعوى بحق خمسة متهمين لم يثبت بحقهم التورط في هذه الجريمة التي شغلت الرأي العام التونسي مدة 11 سنة شأنها شأن جريمة اغتيال القيادي القومي العروبي محمد البراهمي.
التيارات التكفيرية
وينتمي المدانون في الطور الابتدائي، والذين بإمكانهم استئناف الأحكام الصادرة بحقهم، إلى التيارات المتشددة التي قامت أطراف عديدة بتوظيفها في الصراعات السياسية التي عرفتها تونس خلال السنوات الماضية. ووفق عديد الخبراء فإن هذه التيارات قد تكون صنيعة أجهزة استخبارات تابعة لدول «شقيقة» و«صديقة» وأطراف سياسية داخلية قامت بتوظيفها لتنفيذ أجندات محددة في وقت فقدت فيه الأجهزة الأمنية توازنها جراء الأحداث التي شهدتها البلاد بعد الثورة.
وبالتالي فإن هناك من يؤكد على أن من تمت إدانتهم هم البيادق المنفذة لا غير وأن الطرف الداخلي أو الجهة الخارجية التي اتخذت قرار الاغتيال بقيت مجهولة لدى عموم التونسيين ناهيك على من خطط للعملية والغاية الحقيقية من هذا الاغتيال السياسي. حتى أن بعض الناشطين السياسيين التونسيين علق بالقول «كنا نتساءل في الماضي حول من قتل شكري بلعيد، وبداية من اليوم سنتساءل عن من يقف وراء اغتيال شكري بلعيد بما أن الأحكام الصادرة لا تشفي الغليل في معرفة الحقيقة».
وعلى ما يبدو فإن القضاء قام بما يجب القيام به وأصدر أحكاما تتناسب والعقوبات المقررة بالقانون الجزائي التونسي وتحديدا المدونة الجزائية وقانون مكافحة الإرهاب، خاصة وأن هناك اعترافات وشهادات شهود وقرائن أدانت هؤلاء المتورطين في الاغتيال. حتى أن هذا القضاء أصدر أحكاما بالبراءة بحق بعض المتهمين الذين لم تثبت الإدانة بحقهم وهو ما اعتبره البعض قرينة على أن الدائرة التي أصدرت الأحكام لم تخضع لضغوط سياسية ولم تتأثر بالمناخ العام الذي يدفع باتجاه إدانة الجميع.
ويؤكد البعض على أن القضاء لا يمكنه التعرف على الجهات التي اتخذت قرار الاغتيال لأن البيادق المنفذة لا تعرف في العادة إلا رئيسها المباشر الذي قام بتجنيدها وغسل دماغها أو شراء ذمتها بالمال، وهذا الرئيس لديه بدوره رئيس مرتبط بالجهاز المخابراتي الأجنبي أو الجهة الداخلية، وعادة ما تتم تصفية أو تغييب الرئيس المباشر أو رئيسه بعد ارتكاب الجريمة. وبالتالي يصعب على أي جهاز قضائي التوصل إلى الجهة الحقيقية التي اتخذت قرار الاغتيال حتى لو تواصلت التحقيقات لسنوات طويلة لأن الخيط الموصل لهذا الطرف مقطوع والبيادق المستعملة إذا اعترفت فإنها ستخبر فقط عن رئيسها الذي لا تعرف غيره باعتباره من جعلها تعتقد أنها تجاهد وليست بصدد تنفيذ أجندة دولة معادية أو طرف سياسي داخلي لديه مصلحة.
إن ما هو أكيد أن هناك أطرافا عديدة كانت لها مصلحة في الداخل إما في إزاحة شكري بلعيد أو في إثارة البلبلة وزعزعة الاستقرار، وهناك أيضا أطراف خارجية لديها رغبة في إضعاف تونس إما لافتكاك مستثمريها وسياحها أو لمصادرة قرارها السياسي. وبالتالي فإن أصابع الاتهام تتجه إلى أطراف عديدة سواء في الداخل، أو في الخارج القريب والبعيد على حد سواء، خاصة وأن المنتفعين من الأزمات التي تعيشها تونس كثر ويعبرون صراحة عن ابتهاجهم بما أصاب البلاد على المستوى الشعبي ويلمحون لذلك من حين لآخر على المستوى الرسمي.
وللإشارة فإن حركة النهضة أصدرت بيانا عقب الأحكام جاء فيه بأن ما توصلت إليه الأجهزة الأمنية وما انتهت إليه الدوائر القضائية من تفاصيل تعد بشكل يقيني أدلة براءة لحركة النهضة وأدلة قطعية على الأجندة المشبوهة لما يسمى بهيئة الدفاع. واعتبرت الحركة أن صدور هذه الأحكام ينبغي أن ينهي المتاجرة بدم الشهيد وأن يعيد الاعتبار لمن طالته الاتهامات السياسية الباطلة، خاصة رئيس الحركة راشد الغنوشي. كما دعت إلى فتح صفحة المصالحات الكبرى والإعراض عن الأصوات الناعقة بالفتنة والإقصاء والكراهية.
قضاء مستقل
ويعتبر المحامي والحقوقي التونسي صبري الثابتي في حديثه لـ«القدس العربي» أن القضاء التونسي قام بواجبه على أكمل وجه في قضية اغتيال الناشط السياسي والمحامي شكري بلعيد، ويتوقع من هذا القضاء أن يقوم بدوره في قضية اغتيال محمد البراهمي، وقد أصدر أحكامه بالإدانة على البعض وبعدم سماع الدعوى بحق البعض الآخر. ودور القضاء، حسب الثابتي، قانوني بحت ويتمثل في إدانة من ثبتت إدانتهم وتبرئة من ثبتت براءتهم بالنظر إلى ما هو متوفر في ملف القضية من أدلة وقرائن تم جمعها أثناء الأبحاث الأولية من قبل باحثي البداية، أو خلال التحقيق سواء من قبل حاكم التحقيق أو دائرة الاتهام، أو عند الاستماع إلى المتهمين بمناسبة مباشرة القضية في قاعة الجلسة بالمحكمة. ويضيف محدثنا قائلا: «إذا لم يتوفر في ملف القضية ما يفيد تورط أطراف أخرى داخلية أو خارجية رغم اليقين سياسيا بتورطها فإن القاضي الجزائي لا يمكنه التوسع في الأحكام لتشمل أشخاصا آخرين لم يكشف عنهم البحث. وهنا تحديدا تبرز حرفية القاضي الذي عليه أن يحكم طبق القانون والوثائق التي يتضمنها الملف ولا يتأثر بالمزاج العام وأهواء الشارع الذي يرغب في القصاص حتى بدون محاكمات عادلة لو اقتضى الأمر ذلك، ودون إمكانية استئناف الأحكام وتمتع المتهم بحقه في التقاضي على درجتين وفي رقابة محكمة عليا على الأحكام الصادرة استئنافيا.
برأيي المتواضع نجح القضاء التونسي في هذا الامتحان العسير والدليل أنه لم يتعرض إلى انتقادات من أي طرف سياسي سواء الموالاة أو المعارضة ولا حتى من عائلة الشهيد شكري بلعيد. ولم يكن من السهل على القضاء أن يخرج بسلام من هذا الامتحان العسير، ولكنه خرج، ونتمنى أن يسير على هذا الخط في باقي القضايا المرتبطة بالسياسة حتى يكون صمام الأمان لترسيخ دولة القانون التي يطمح إليها جميع التونسيين».
ويرى الثابتي أنه في كل الحالات فإن هذا الحكم هو ابتدائي الدرجة وما زال هناك استئناف قد تبرز فيه أدلة جديدة قد تبرئ البعض وقد تدينهم من جديد مع الترفيع أو التخفيض في الأحكام أو المحافظة عليها، وقد تزيد من أعداد المدانين في هذه القضية. فكل الفرضيات قائمة، حسب الثابتي، خلال الطور الاستئنافي وأيضا لو تم تعقيب الحكم ونقضه من قبل محكمة التعقيب، أو محكمة النقض كما تسمى في بعض البلدان العربية، وإحالته من جديد على محكمة الاستئناف من جديد للنظر فيه بتركيبة أخرى. ويضيف قائلا: «باختصار ما زال مسار العدالة طويلا إلى حين صدور حكم بات يمكن على أساسه إدانة أو تبرئة هذا الطرف أو ذاك. وفيما يتعلق بأحكام الإعدام فإنه لا يمكن تنفيذها لأن تونس من الدول التي أبقت على حكم الإعدام في تشريعاتها الجزائية إرضاء للمحافظين ورجال الدين لكنها لا تطبقه واقعيا إرضاء للحقوقيين والمطالبين بإلغاء حكم الإعدام».
تعليقات الزوار
لا تعليقات