أخبار عاجلة

الموت البيئي يحاصر النازحين في غزة

 جلست الستينية فتحية شمالي على قطعة قماش مهترئة قرب خيمتها المرقعة بألوان الغبار، غربي غزة، لا شيء حولها سوى أكياس القمامة المتراكمة، وبركة آسنة تفيض من مياه الصرف الصحي، وثلاثة أحفاد لا يتوقف سعالهم عن تمزيق الهواء الكثيف بالروائح الكريهة.
ترفع بصرها إلى السماء فتهمس: «يا رب.. هذا ليس مكانًا يُربّى فيه طفل أو تُصلى فيه صلاة». ومنذ أن نزحت من بيتها في جباليا، أصبحت الأرض الملوثة بيتًا لها ولأحفادها.
فتحية لم تكن تتخيل يومًا أن تكون المجاري مأوى لأحلامها المكسورة. فقدت ابنها الوحيد وزوجته في قصف على بيتهم، لتجد نفسها مسؤولة عن أطفاله، تسير بخطوات مثقلة بين خيام النزوح، وتخوض في المياه السوداء التي لا تميز فيها ماءً من مجارٍ، أو دمًا من قهر.
تقول لـ«القدس العربي»: «نعيش قرب المجاري. البعوض لا يرحمنا، والذباب كأن له خراطيم من نار، يلسع الصغار حتى تسيل دماؤهم».
تغسل ثياب أحفادها في دلاء مياه ملوثة، وتغلي الماء فوق نار أشعلتها بقصاصات كرتونية التقطتها من القمامة نفسها. كل مساء، تمضي ساعات في مطاردة الجرذان الكبيرة التي تتسلل إلى خيمتها، تقضم الطعام القليل وتمازح الأطفال، رغم ما بداخلها من ألم. تقول وهي تمسح دمعة نازلة على خدها: «لم نعد نعرف ما نخافه أكثر: الغارات أم هذه الحياة».
تشير فتحية بأسى إلى بركة الشيخ رضوان ومياهها العادمة، قبل أن تحاول رفع نبرة صوتها المختنق: «أريد فقط مكانًا نقيًا لأعيش فيه بقية أيامي.. لم أطلب قصرًا ولا وطنًا كاملاً.. فقط حفنة من الكرامة. الجانب الغربي من غزة كله ليس لي فيه مكان سوى هنا».
رغم ذلك، لا تشتكي كثيرًا، تقول إن هناك من هو أسوأ حالًا منها، لكن وجهها الشاحب وتجاعيد التعب تنكر هذه الكلمات. ترفع حفيدتها الصغيرة وتضمها قائلة: «هذه الطفلة لم تنم منذ يومين.. تستيقظ باكية من لدغات البعوض أو صراخ الفئران أو صدى الطائرات». ثم تصمت، كأن الكلام لم يعد يفي بوصف هذه الجراح.

بيئة قاتلة

ليست فتحية وحدها من تعاني. الآلاف من العائلات الفلسطينية، النازحة قسرًا من قصف لا يهدأ، وجدت نفسها محاصرة بما هو أسوأ من القنابل: روائح النفايات، وأسراب الذباب، ومياه المجاري الطافحة. باتت الخيام تُنصب على تخوم المكبات، وفي ظلال البرك السوداء التي تحولت إلى مشهد دائم للحياة في غزة.
المشهد يبعث على الغثيان: أطفال يمشون حفاة فوق أكوام النفايات، وأمهات يحاولن طهي الطعام على نار مشتعلة من البلاستيك، وسط طنين الذباب والبعوض. صار المرض مقيمًا دائمًا في الخيام، لا يغادرها، ولا يُعالج. الحكة، الحساسية، التهابات الجلد، ونوبات الربو.. كلها تتكاثر كما تتكاثر الحشرات هنا.
تُرك الناس بلا خيار. الجهات الدولية والمنظمات الإغاثية عاجزة عن تأمين بدائل. لا مدارس تصلح للإيواء، ولا ساحات كافية، ولا مراكز صحية تستوعب آلاف الحالات المتزايدة. وحتى البحر، الذي كان ملاذًا للنازحين، غدا اليوم مزدحمًا بالخيام، حتى أصبحت الرمال لا تُرى من كثرتها.

المعاناة مضاعفة: من جهة، لا طعام ولا ماء نظيف ولا علاج؛ ومن جهة أخرى، بيئة قاتلة لا تصلح للحياة. لم يعد النزوح مجرد هرب من الموت، بل ولوج إلى موت بطيء، متعفن، يبدأ في الصدر ولا ينتهي في النفس.
كشف تحليل صادر عن الأمم المتحدة حول تقييم أضرار البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في غزة، أن الكارثة البيئية في القطاع تتجاوز ما يمكن تحمله. فقد أدى تدمير المرافق الحيوية إلى تسرب واسع لمياه الصرف الصحي غير المعالجة، ما تسبب في تلوث شامل لمصادر المياه والمناطق السكنية.
التقرير الأممي أكد أن هذه التسربات أدت إلى انتشار أمراض خطيرة بين السكان، بخاصة الأطفال وكبار السن. تكدست النفايات في الشوارع وبين الخيام، وخلقت بيئة خصبة لتكاثر الحشرات، وانتشار الحمى والالتهابات، وتدهور الحالة الصحية للمخيمات.
أظهرت الأرقام أن ما يقرب من 70% من محطات ضخ مياه الصرف الصحي قد دُمرت، من بينها 85% في مدينة غزة و80% في رفح. أما مرافق معالجة المياه العادمة، فتم تدمير 67% منها، بنسبة 100% في شمال غزة وخان يونس ودير البلح.
إلى جانب ذلك، أدى تدمير سيارات جمع النفايات ومنع دخول الوقود إلى عرقلة تامة في إدارة المخلفات، ما ساهم في انتشار الملوثات في الجو والماء والتربة، وحوّل أماكن الإيواء إلى بؤر وبائية.

المكبات وجهتنا

رامي الجرو، نازح أربعيني من بيت لاهيا، يجلس على قطعة خشب قرب مكب النفايات في حي الزيتون، وجهه متسخ، لحيته كثيفة وشعره أهوش، وعيناه غائرتان من فرط السهر والهم.
يقول لـ«القدس العربي»: «لا يوجد مكان نذهب إليه غير مكبات القمامة. هذه التي نعيش قربها سببت لنا أمراضًا كثيرة. الحكة والربو، والأمراض الصدرية، كلها أصبحت جزءًا من يومنا».
يشير بيده إلى الخيام المرقعة التي تفترش الأرض وتجاور الأكوام السوداء. «ريحة المكب كريهة جدًا. لا ننام ليلًا. نقضي ساعات النوم في قتل الصراصير والذباب والبعوض. حتى الهواء، لو تنفسناه، كأننا نستنشق مرضًا».
ابنه الأصغر، لم يتجاوز الرابعة، يعاني من سعال حاد منذ أسبوع: «كلما تماثل للشفاء انتكس. أريد فقط أن يشفى ابني. لا يهمني أنا. المهم ألا يموت كما مات ابن جاري».
رامي لم يكن فلاحًا ولا مقاتلًا، بل سائق أجرة فقد سيارته تحت القصف، وبيته صار ركامًا. «لم يبقَ لي شيء. أنا فقط أتنفس لأنني لم أمت بعد. والعيش قرب النفايات يجعلني أشعر أن الموت أقرب من أي وقت مضى».
أما عماد صيام، نازح ثلاثيني بلحية كثيفة وشعر أبيض مبكر، فقد اختار خيمة قرب مكب النفايات غرب غزة، بعدما فشل في العثور على مأوى آخر. «المكب يضايقنا من ناحية الرائحة. هو بيئة غير صالحة للسكن. تسرح العرس والفئران والصراصير في خيامنا».
يركض أحد أبنائه خلف فأر تسلل إلى الخيمة، فيما تصرخ ابنته من لدغة حشرة. «نحن هنا مجبرون نقعد، لأن جيش الاحتلال أجبر كل سكان القطاع على النزوح، من جباليا إلى رفح. وين بدنا نروح؟ شاطئ البحر ممتلئ بالخيام».
يحاول التماسك، لكنه لا يخفي غضبه: «في كل مكان نذهب إليه، جيش الاحتلال يلاحقنا. جبرونا نعيش هنا عند مكب النفايات، وهذا غير صالح للعيش ولا حتى للموت».
يضيف لـ«القدس العربي»: «لو جاء صحافي أوروبي ليرى ما نعيش فيه، لقال إن هذا أكبر دليل على أن إسرائيل تمارس تطهيرًا بطيئًا، لا بقنابل فقط، بل بالروائح والمجاري والمرض».

250 ألف طن نفايات

وفي تصريح لـ«القدس العربي»، قال عاصم النبيه، المتحدث باسم بلدية غزة، إن الأزمات البيئية في المدينة أصبحت فوق طاقة الاحتمال. وأوضح أن أكثر من 250 ألف طن من النفايات تراكمت في شوارع غزة، دون قدرة على جمعها أو ترحيلها إلى المكب الرئيسي في جحر الديك بسبب القصف.
وأكد النبيه أن البلدية تلجأ إلى مكبات عشوائية مثل فراس واليرموك، ما ساهم في تفشي الحشرات وخلق بيئة مهددة للحياة. «نعيش كارثة صحية متكاملة الأركان»، قالها وهو يشير إلى أن 85% من آليات البلدية قد دُمرت، ما يعني شللاً شبه كامل في الخدمات الأساسية.
وأضاف: «مع أوامر الإخلاء الأخيرة من شرق غزة، اضطرت عشرات الأسر للنزوح نحو بئر الصرف الصحي في حي الشيخ رضوان، فالمناطق الغربية لم تعد تتسع لأحد. المشهد مأساوي إلى حد أن بعض العائلات تفترش حواف المجاري بحثًا عن أي موطئ قدم».

تواطؤ الموت

يتضح أن الكارثة في غزة لم تعد فقط في القصف، بل في بيئة القتل الصامت التي تهيئها إسرائيل بتدمير البنية التحتية ومنع المساعدات. تواطؤ القمامة، والصرف الصحي، والروائح، والحشرات، يتجاوز مجرد أزمة خدمات، ليصير جريمة تطهير بطيئة مغطاة بالصمت الدولي.
من لم يمت بالقنابل، يموت بالتسمم، أو بلسعة حشرة، أو بالتهاب رئوي. ولا يزال النازحون يسيرون بأقدام دامية فوق النفايات، بحثًا عن حياة لا توجد. في غزة، حتى الهواء لم يعد يصلح للحياة.

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات