عاشت تونس خلال الأيام الماضية على وقع ما سمي بأزمة الأطباء الشبان، حيث أعلن 7 آلاف طبيب دخولهم في إضراب مفتوح عن العمل في المستشفيات التونسية حتى تحقيق مطالبهم. وطالب المضربون بزيادة منح التدريب المخصصة لهم وتحسين أجور وظروف عمل الأطباء الشبان في سنة الخدمة المدنية بالمستشفيات، وتمكين الطبيبات الشابات في مرحلة التدريب من حقهن في عطلة الأمومة.
تعاطف واسع
كما طالب الأطباء الشبان بأن لا تقوم وزارة الصحة بإجبارهم على القبول بالتعيينات المفروضة منها باعتبار أن القوانين في تونس تمنح للأطباء الشبان حق اختيار مراكز تدريباتهم. وتجد الدولة صعوبة في تلبية الطلبات باعتبار أن إقبال الأطباء الشبان يكون عادة على التدرب في العاصمة والمدن الكبرى والساحلية، وهناك نفور من العمل في المدن الداخلية والمهمشة والتي هي بحاجة أيضا للخدمات الصحية والدولة مسؤولة عن توفير الأطباء لها.
ولم يفض الاجتماع الأول الذي عقد بين منظمة الأطباء الشبان ووزارة الشؤون الاجتماعية إلى حل وهو ما جعل منظمة الأطباء الشبان تصدر بيانا اعتبرت فيه أن المسار الأكاديمي والتحصيل العلمي للأطباء الشبان مهدد. واعتبرت المنظمة التي وجدت مطالبها تعاطفا واسعا من الشارع التونسي أن ما يحصل من السلطة هو مواصلة لمحاولات تهميش حقوق الأطباء الشبان والتضييق على تحركاتهم.
لكن بعد مفاوضات عسيرة بتدخل من وزير الصحة تم يوم الخميس 3 تموز/يوليو 2025 إمضاء محضر اتفاق جرى من خلاله الاستجابة لعدد من مطالب الأطباء الشبان الذين أوقفوا إضرابهم. وأكدت منظمة الأطباء الشبان أن وزارة الصحة تفاعلت إيجابيا لتجنيب القطاع أزمة جديدة وأثنت على جهود عموم الأطباء الشبان ونضالهم الذي جعل الدولة تستجيب لعدد من المطالب ومنها مسألة اختيار مراكز التدريبات.
مُسكن ظرفي
ويؤكد البعض على أن أزمة الأطباء الشبان، ورغم التوقيع هذه الاتفاقية بين سلطة الإشراف والمنظمة، لم يقع حلها بالكامل، وأن ما حصل هو مجرد مُسكن ظرفي بما أنه لم تقع الاستجابة إلى جميع المطالب التي طرحها الأطباء الشبان. حيث بقيت مطالب أخرى، تعذر على الدولة أن تستجيب لها في الوقت الراهن، ويبدو أنه تم تقديم وعود من قبل السلطة لحلها على مراحل، وهو ما يعني أن هذه المطالب ستبقى بمثابة القنابل الموقوتة التي يمكن أن تعيد الطرفين إلى المربع الأول وهو الإضراب وتعطيل مرفق عام الصحة العمومية.
ويرى البعض أن سوء الحوكمة والتصرف خلال الأعوام الماضية تسببا للدولة في مديونية مرتفعة جدا لم تعرفها طيلة تاريخها، وهي بصدد تسديد أقساط قروضها لأطراف خارجية وداخلية، وبالتالي فمواردها لتطوير المرافق العمومية باتت محدودة ولا قدرة لها على الاستجابة لمطالب مختلف القطاعات ومن ذلك قطاع الأطباء، والشبان منهم على وجه الخصوص. بالمقابل فإن قدرة أطباء تونس، بما في ذلك الشبان منهم، على الهجرة متوفرة، حسب هؤلاء، ويكفي أن يعرض الطبيب التونسي خدماته على أي من الدول المتقدمة التي يمارس فيها الطبيب عمله في ظروف طيبة ومريحة حتى يجد كل الترحيب بالنظر إلى السمعة الطيبة لكليات الطب التونسية وكفاءة خرجيها.
بل أن هناك في الخارج، وبحسب هؤلاء، من يقيم قنوات للتواصل مع الأطباء التونسيين لحثهم على ترك البلاد والاستقرار في الخارج، مع توفير كل أسباب الراحة لهم في عملهم وفي حياتهم الخاصة خلافا لما بات عليه الحال في القطاع العمومي التونسي الذي تدهور حاله في السنوات الأخيرة. كما أن العمل في القطاع الخاص في تونس نفسها يغري هؤلاء الأطباء بعد أن اتبعت الدولة في التسعينات سياسة تشجيع القطاع الخاص على حساب القطاع العمومي في المجال الصحي وهو ما انعكس سلبا على القطاع العمومي الذي رغم كل التهميش حمل لوحده وزر الأوبئة والجوائح في السنوات الأخيرة رغم كل نقائصه ومساوئه.
طلب متزايد
إن الإغراءات التي تدفع الأطباء التونسيين إلى هجرة القطاع العمومي إلى القطاع الخاص أو إلى الاستقرار والعمل خارج البلاد متوفرة والطلب على الأطباء التونسيين متزايد خصوصا من بلدان مثل فرنسا وألمانيا وأيضا بلدان الخليج وأمريكا الشمالية. ولعل السبب في ذلك هو جودة التكوين في البلاد من جهة، والنجاح الذي حققه الأطباء التونسيون في هذه الدول سواء في التدريس الجامعي في الكليات أو ترؤس الأقسام في المستشفيات من جهة أخرى.
كما أن النجاحات الطبية التي يحققها الأطباء التونسيون في تونس وتتحدث عنها أهم النشريات والدوريات المتخصصة في المجال الطبي، خصوصا في العمليات الجراحية الصعبة والمعقدة، تُغني عن كل تعليق وتجعل بقاء الطبيب التونسي في بلاده أمرا صعبا، وتجعل الدولة في موقف لا تحسد عليه. فهي من جهة مطالبة بإصلاح المرفق العمومي الصحي وإبقاء الأطباء في بلادهم، ومن جهة أخرى هي لا تمتلك الموارد في الوقت الراهن لتحسين وضعية الأطباء بما أن الأولوية اليوم هي لتسديد الديون الموروثة عن الحقب الماضية.
حلول عديدة
ويرى الطبيب محمد البرهومي في حديثه لـ«القدس العربي» أن هناك حلولا عديدة مطروحة لمشكلة هجرة الأطباء التونسيين منها الإصلاح التدريجي، خطوة بخطوة، وعلى مراحل، وكلما أمكن ذلك، أو البحث عن الاستثمارات الأجنبية لتحسين المرفق العمومي للصحة في ظل شح الموارد، حيث بدأت الصين، وعلى سبيل المثال، الاستثمار في المجال الطبي في تونس وفي إعادة صيانة وتجهيز الكثير من المستشفيات العمومية. ومن بين الحلول المطروحة أيضا، حسب البرهومي، التعويل على وطنية وصبر الكثير من الأطباء الذين أنفقت الدولة الغالي والنفيس في سبيل تكوينهم من أموال المجموعة الوطنية وذلك من خلال الحوار وبناء الثقة والتخطيط معا لما يخدم مصالح الجميع.
ويضيف محدثنا قائلا: «من الحلول المطروحة أيضا العمل على توفير البيئة الملائمة لعودة الأطباء والإطارات شبه الطبية إلى تونس خاصة وأن لدى هؤلاء رغبة حقيقية في العودة إلى بلادهم يعبرون عنها كلما سنحت الفرصة. ففي دراسة أعدّها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية في شهر آذار/مارس 2024 حول هجرة مهنيي الصحة، جاء أن 78 في المئة من الأطباء المقيمين الذين هاجروا أبدوا استعدادهم للعودة إلى البلاد إذا توفرت بيئة عمل ملائمة ومحفزة مالياً.
فأزمة الأطباء الشبان هي جزء من أزمة أوسع وأكثر تشعبا وهي أزمة القطاع الصحي العمومي في تونس وهي أزمة أعقد من أن تحل في اتفاق تم على عجل بين سلطة الإشراف ومنظمة الأطباء الشبان. وبالتالي فالأمر بحاجة إلى جلوس أهل الاختصاص جميعا والتشاور لإيجاد الحلول الكفيلة للنهوض بهذا القطاع الحيوي الذي راهنت عليه كثيرا دولة الاستقلال إلى جانب قطاع التعليم ورصدت لهما باكرا نصيب الأسد في ميزانية الدولة».
أرقام مفزعة
بحسب إحصائيات نشرتها الوكالة التونسية للتعاون الفني مؤخرا، حول الكفاءات التونسية المنتدبة بالخارج، تتصدر ألمانيا طليعة البلدان التي تستقطب الإطارات الطبية وشبه الطبية التونسية حيث تم سنة 2024 انتداب 724 تونسيا في ألمانيا. وجاءت كندا في المرتبة الثانية من خلال انتداب 652 إطارا طبيا تونسيا في مختلف الاختصاصات، وحلت فرنسا في المرتبة الثالثة وذلك بعد انتداب 384 طبيبا.
وتؤكد الأرقام أيضا أن قرابة 80 في المئة من الأطباء الشبان يغادرون تونس سنويا نحو السوق الأوروبية وتحديدا إلى فرنسا وألمانيا، ثم تأتي دول الخليج في المرتبة الثانية وأخيرا كندا، وأن حوالي 4 آلاف طبيب غادروا البلاد خلال السنوات الثلاث الأخيرة في الوقت الذي يبلغ عدد الأطباء المسجلين بعمادة الأطباء قرابة 29 ألفا. وللإشارة فإن هذه الهجرة هي في نسق تصاعدي حيث كان العدد في 2018 يقارب 350 طبيبا ثم ارتفع خلال سنة 2022 ليصل إلى 800 طبيب وتواصل الارتفاع في سنة 2023 ليبلغ 1300 طبيب.
وتوجد في تونس 4 كليات طب، واحدة بالعاصمة وواحدة بمدينة سوسة وأخرى بمدينة المنستير ورابعة بمدينة صفاقس، يتخرج منها سنويا 1800 طبيب بالإضافة إلى خريجي كليتي طب الأسنان والصيدلة بالمنستير، وبالتالي فإن الأمر يتعلق بكارثة حقيقية. فلو استمر الحال على ما هو عليه، بحسب تأكيدات البعض، فإنه قد يأتي يوم لن يجد فيه التونسيون أطباء يقومون بعلاجهم، وقد يضطرون إلى استيراد أطباء من بلدان لا تتوفر على نظام تعليمي بإمكانه تخريج أطباء بالمستوى المطلوب، وقد يسقط حلم وزير الصحة الحالي بتحويل تونس إلى قطب صحي إقليمي في الماء.
تفوق ملحوظ
ويتقدم الأطباء التونسيون عادة بأعداد كبيرة وهامة لما يسمى باختبارات التحقق من المعرفة للعمل في دول الاتحاد الأوروبي ويتفوقون في هذه الاختبارات بشكل ملحوظ على مواطني بلدان أخرى يتقنون مثلهم اللغة الفرنسية. ففي سنة 2018 على سبيل المثال بلغ عدد الخطط المقترحة من قبل الأوروبيين 528 خطة حصل التونسيّون لوحدهم على 280 منها أي بنسبة نجاح توازي 47 في المئة.
ويؤدي هذا الأمر بالكثير من الأطباء التونسيين من الذين نجحوا في الاختبارات إلى طلب الشطب من سجل الأطباء التونسيين الذي تمسكه نقابة الأطباء بما أن بعض نقابات الأطباء الأوروبية تشترط أن لا يكون الطبيب منتميا إلى نقابة أخرى حتى يقع تسجيله. ومن بين نقابات الأطباء التي تضع هذا الشرط نقابة الأطباء الفرنسية المستفيدة من كليات الطب التونسية وخريجيها، ومن المال العام للدولة التونسية التي أصبحت تنفق على تكوين الأطباء ليستفيد منهم الفرنسيون بالنهاية.
لقد ارتفعت طلبات الشطب من سجل نقابة أطباء تونس في السنوات الأخيرة مع إقبال فرنسا على جلب وتوطين الأطباء التونسيين بشكل ملحوظ وأصبح الأمر لافتا ويستدعي التدخل العاجل بما أن الفرنسيين لديهم رغبة في سلخ الطبيب التونسي نهائيا عن بيئته وقطع الطريق عليه للعودة مجددا إلى بلده. وللإشارة فإن عدد مطالب الشطب من سجل الأطباء التونسيين لم يكن يتجاوز 8 في سنة 2011 ليبلغ 187 طلب شطب خلال سنة 2024 وهو ما يبين حجم الكارثة التي ما زالت الدولة لم توليها إلى اليوم الاهتمام التي تستحق.
كريمة بلحاج طبيبة شابة مقيمة حاليا في نيس قالت لـ«القدس العربي» إن سفرها إلى فرنسا جاء ضمن سياق بعثة تدريب متخصص في مجالها الطبي وانه من المفترض أن تعود بعد انتهاء مدة التدريب. ولكنها تشير الى ان احتمال بقائها للعمل في فرنسا يحظى بأولوية نظرا للامتيازات التي يحصل عليها الطبيب الشاب التونسي في جامعات فرنسا. وأشارت إلى ان عددا كبيرا من زملائها لديهم نفس التفكير بالهجرة في حال لم يتحسن وضع المستشفيات العمومية ولم يتم الاستجابة لطلباتهم. وفق قولها.
السياحة الطبية
ولسائل أن يتساءل في ظل هذا الوضع المزري عن مصير السياحة الطبية التي تعتمد عليها تونس كثيرا لجلب العملة الصعبة، وتحتل فيها المرتبة الثانية عالميا بعد فرنسا، ويأتيها بموجبها المرضى من كل مكان وخصوصا من بلدان الجوار وذلك بالنظر إلى كفاءة مهنيي قطاع الصحة من جهة وسعر الخدمات الطبية المناسب مقارنة بعدد كبير من بلدان العالم من جهة أخرى. فهذا القطاع لا يهم وزارة الصحة وحدها، بل يهم وزارات أخرى عديدة على غرار وزارة السياحة ووزارة الشؤون الاجتماعية والتعليم العالي التي تشرف على كليات الطب وغيرها، وبالتالي فإن على الحلول المتعلقة به يجب، بحسب البعض، أن تكون مشتركة ومن وضع خبراء ينتمون إلى هذه الوزارات جميعا.
وفي هذا الإطار يرى الخبير الاقتصادي التونسي عماد بالرابح في حديثه لـ«القدس العربي» أنه إذا استمر الحال على ما هو عليه وتم استنزاف القطاع الصحي من خلال هجرة الأطباء التي تتزايد يوما بعد يوم، فإن قطاع السياحة الطبية سيتضرر وسيخسر البلد مصدرا هاما من مصادر العملة الصعبة التي هو في أمس الحاجة إليها بعد تراجع إنتاجه من النفط والغاز وجنوحه إلى التوريد لتغطية العجز الذي يتفاقم سنويا. فالأجانب الذين يأتون إلى تونس للتطبب، بحسب بالرابح هم يأتون من أجل الأطباء التونسيين من خريجي كليات الطب التونسية، وجلب أطباء أجانب مثلما دعا إلى ذلك البعض لن يحل المشكلة خاصة إذا كان المعوضون الأجانب ليسوا بمستوى الراحلين من التونسيين.
ويضيف محدثنا قائلا: «فالدولة التي نجحت منذ الاستقلال في تكوين كفاءات على مستوى عال في جميع الميادين بسبب مراهنتها على تعليم أبنائها وعلى جودة التعليم في القطاع العمومي، فشلت في توظيف هذه الكفاءات في تحقيق التنمية المنشودة وأهدرت هذه الثروة البشرية التي تتمنى وجودها دول عديدة. لذلك هي مطالبة اليوم ورغم الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد وكثرة الديون التي تخنق صناع القرار، بإيجاد الحلول للحفاظ على أطبائها ومهندسيها وأستاذتها وخبرائها في كافة المجالات وتوظيفهم لتحقيق تنمية حقيقية. لقد تحدث وزير الصحة كثيرا عن تحويل تونس إلى قطب صحي إقليمي وهناك رغبة من الدولة ليكون القطاع الصحي مصدرا هاما من مصادر إدخال العملة الصعبة للخزينة التونسية، لكن بالتوازي مع هذه الرغبة التي برزت عمليا من خلال جلب الاستثمارات الصينية والخليجية لبناء مستشفيات والسعي لتركيز مخابر ومصانع لصناعة الأدوية واللقاحات النادرة، لا يوجد عمل جاد على «توطين» الأطباء التونسيين في بلادهم ودمجهم بصورة فاعلة في العملية التنموية. وبالتالي إذا استمر نزيف هجرة الأطباء فإن جهودا كثيرة تخص القطاع الصحي والسياحة الطبية ستذهب سدى في وقت تبدو فيه الدولة بحاجة ملحة لتنويع مصادر دخلها من العملة الصعبة».
تعليقات الزوار
لا تعليقات