أخبار عاجلة

جواز السفر الدبلوماسي… حديث المدينة في الجزائر

ما زلت أتذكر ذلك النقاش الذي جمعني مع زميل سوسيولوجي في الجزائر العاصمة، وهو يعلق على تدهور حالة المدينة. ربطه بظاهرة النخب الجزائرية الرسمية، التي تفضل الإقامة على التراب الفرنسي، بسبب ومن دون سبب. تغادر الجزائر يوم الأربعاء مساء، ولا تعود إلا السبت مساء، حتى عندما تكون على رأس مواقع المسؤولية. توزع أيام أسبوعها بين باريس والجزائر. زميلي السوسيولوجي الذي فاجئني بهذا التعليق هو الذي لم يكن معروفا بمعارضته للأوضاع القائمة في الجزائر، أكد لي أننا لم نبنِ مدينة بمواصفات معقولة بعد الاستقلال، لأن جزءا مهما وفاعلا من نخبنا الحاكمة يملك إقامات -هل اسميها أولى أو ثانية – في فرنسا، ولم تعد وضعية المدينة الجزائرية تعني لها الكثير. يستبدلها بالإقامة في محمية نادي الصنوبر عندما تفرض عليه مسؤولياته التي يصر عليها، أن يبقى معنا بعض أيام الاسبوع. لينتقل مباشرة إلى إقامته الفرنسية بعد التقاعد. ليبقى في حاجة أكيدة إلى جواز سفره الدبلوماسي للقيام برحلاته المكوكية بين ضفتي المتوسط.
وضع يمكن معاينته والوقوف عليه في مطار الجزائر، ونحن نلاحظ أن الكثير من الوجوه المعروفة المسافرة إلى فرنسا -لا تحمل معها حقائب سفر – وهي متوجهة إلى فرنسا، ما جعلني أكتب في إحدى المقابلات، التي أجرتها الصحافة الوطنية معي أنهم لا يسافرون بل يعودون إلى ديارهم – وقع الكلمات بالفرنسية أوضح، Ils ne voyagent pas ils rentrent chez eux.

وضع تأكدت منه وأنا أصادف الكثير من الوجوه المعروفة في شوارع باريس ومقاهيها، بل شاهدت من كان فوق دراجة هوائية في شوارع باريس. سلوك لن يتمكن من القيام به في الجزائر العاصمة هو الطالب القديم في باريس، الذي تعرّف عليها كمدينة، قبل أن يتعرف على مدينة الجزائر العاصمة التي لم يدخلها إلا بعد الاستقلال، وهو على رأس مؤسسة اقتصادية كبيرة! عندما نفهم مثل هذه السلوكيات نفهم بكل سهولة الطلب الكبير على جواز السفر الدبلوماسي من قبل النخب الجزائرية، القريبة من مراكز القرار التي تملك مصالح متنوعة على التراب الفرنسي – لا داعي للتذكير بها لأنها أصبحت معروفة لدى الجميع ـ على غرار الرصيد البنكي، ودراسة الأبناء في فرنسا، والمستشفى الذي يداوي والصديقة التي يتم التواعد معها، إلخ ـ أصبحت من البديهيات التي تميز سلوك المسؤول الجزائري، جعل زميلة لي في الطاقم الإداري لمؤسسة بحثية افريقية تفاجأ عندما رفضت بطاقة سفر اشترتها لي، بعد الانتهاء من الندوة التي شاركت فيها في دكار السنيغالية، مرورا بباريس. الزميلة التي كادت تحتج عليّ عندما قلت لها، إن هناك خطا جويا مباشرا، دكار ـ الجزائر أفضل ركوبه بدل الرحلة غير المباشرة عبر باريس الأطول. اشتريت لك على هذه الرحلة لأن الجزائريين يفضلون دائما المرور عبر باريس!
فضلت البدء بهذه المقدمة الطويلة لكي يفهم القارئ، أن علاقات بعض النخب الجزائرية بباريس الفرنسية، وغيرها من المدن الأخرى قديمة وحميمية. كانت شبه مقبولة إلى حد ما عندما لا تتجاوز البعد الفردي. لم تعد كذلك بعد الاستقلال بعقود تحولت فيه هذه العلاقة بين النخب الجزائرية وفرنسا إلى علاقة نيوكولونيالية من الطراز الأول، تعكس وضعا غير سوي. لا يمكن السكوت عليه أو تبريره. وضع ذكّرت به في كتاباتي أكثر من مرة للقول إن فرنسا ستحاول الضغط علينا من خلاله، كما تحاول أن تفعل هذه الأيام لإنجاز شرخ بين النخب والشعب، في مجتمع عرف تقليديا هذا النوع من الصراع ضد النخب. بعد أن بدأت تتأكد أنها خسرت الكثير من معاركها مع الجزائر على أكثر من صعيد اقتصادي، مالي وثقافي، قد يمتد إلى مسألة مكانة فرنسا في الجزائر، رغم أنني لست متأكدا من نجاح المسعى، نتيجة ما يعتري الموقف الرسمي من عدم جدية وتخبط. وهو يتكلم عن استخدام الإنكليزية بدل الفرنسية داخل المنظومة التعليمية الجزائرية. ليبقى التنافس القوي الذي وجده الطرف الفرنسي على المستوى الاقتصادي أحد المؤشرات المهمة في فهم مواقفه الأخيرة، التي سرّع فيها الحضور السياسي لليمين المتطرف الفرنسي في الكثير من مراكز القرار، بعد التوجهات السياسية الجديدة التي بدأت تظهر على الماكرونية نفسها، وهي تتوجه يمينا، كما هو حاصل في كل العالم، رغم كل ما يقال عن تلك النزعة الثقافوية، التي نجدها خلف صناعة القرار الخارجي الفرنسي، ليبقى العمق الاقتصادي هو الأساس في نظام سياسي مؤمن بأن اللغة والثقافة ستخدم الاقتصاد في نهاية الأمر..
لنصل إلى الأمور الجدية التي نريد أن نختتم بها هذه المقالة، تتعلق بنا كجزائريين في علاقاتنا بنظامنا السياسي والشأن الداخلي الوطني، الذي لا يملك إمكانيات حقيقية في مواجهة السياسة النيوكولونيالية الفرنسية، إلا إذا غيّر النظام السياسي الوطني جديا في نوعية علاقاته بالمواطنين الجزائريين، حتى لا تكبر الشروخ أكثر، التي أظهرها القرار الفرنسي الأخير بعد منع بعض المسؤولين الكبار الحاملين لجواز السفر الدبلوماسي من دخول التراب الفرنسي كما قيل.. «ارتاح « له الكثير من المواطنين تعبيرا عن هذا الشرخ بين المواطن والسلطة، ومن ورائها النخب الرسمية، المتهمة من قبل الكثير من الجزائريين بأفراطها في الانانية وعدم مراعاة مصالح المواطنين. شرخ يمكن أن يتوسع أكثر إذا لم تحل مسألة الحريات في الجزائر، فالمواطن الخائف على مصيره، المهدد بالسجن في كل لحظة، الذي لا حق له في إبداء رأيه، الذي لا يملك مؤسسة إعلامية حرة واحدة يعبر من خلالها، وحزب ممثل ينشط داخله وبرلمان يعبر عن مصالحه، لن يستطيع على الإطلاق الدفاع عن مصالح بلده ومن باب أولى نظامه السياسي.
شرط الحريات يبقى حاضرا كضرورة قصوى لإنجاز القطيعة مع المصالح الفرنسية النيوكولونيالية، التي يجب أن نفرق فيها بين الشعب الفرنسي وقواه السياسية الديمقراطية، التي ما زالت مؤيدة لمواقف الجزائر والشعب الجزائري، بمن فيهم المهاجرون في فرنسا، الذين يمكن أن تتحرك الآلة الإعلامية الفرنسية اليمينية المسيطرة ضدهم، كما بدأت تفعل وهي تستفرد بداية «بالجزائري – السيئ» الذي يمثله الحرّاق ، قبل أن تتوسع دائرته لتهدد جزءا كبيرا من الجزائريين المقيمين منذ سنوات وعقود على التراب الفرنسي بمن فيهم أصحاب الجنسية الفرنسية المكتسبة. ما يحتم على الدبلوماسية الوطنية العمل على إنجاز تحالفات أوروبية ودولية، لعزل السياسة الفرنسية، التي فقدت الكثير من حضورها افريقيا. اعتمادا على ترتيب الشأن الداخلي، قبل التوجه نحو إعادة قراءة المشهد المغاربي المعقد، الذي يبقى الحل الأمثل في مواجهة الطرف الفرنسي الذي يقوم بنجاح حتى الآن باستغلال الشروخ بين دوله المتصارعة.
كاتب جزائري

ناصر جابي

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات