هناك قاسم مشترك لافت في الاجتماعات التي استضافتها السعودية الأسبوع الماضي حول أوكرانيا وغزة: تغييب أصحاب القضية.
تعمّدتُ القول «تغييب» وليس غيابا لأنه من الواضح أنه تغييب مقصود يراد من ورائه الوصول إلى شيء ما.
في حالة غزة تعمّدت الأطراف العربية الحاضرة تغييب محمود عباس بصفته رئيس «دولة فلسطين» ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة حماس باعتبارها السلطة الفعلية في غزة والعامل المحرّك وراء الزلزال الهائل الذي تشهده المنطقة، والتي من الصعب أن ينجح تغيير في غزة من دون موافقتها.
وفي حالة أوكرانيا تعمّد الأمريكيون تغييب الرئيس فولوديمير زيلينسكي وبلاده في ما يبدو توجها صريحا نحو تهميشه أو حتى التخلص منه ثم تصفية القضية بأي شكل.
في الحالة الأوكرانية تعمّد الأمريكيون التباهي بتغييب أوكرانيا والرئيس زيلينسكي، بينما أحاط الصمت بتغييب محمود عباس (لا أقول حماس لأن إشراكها من ضروب المستحيل) في الحالة الفلسطينية، وفي ذلك الصمت حرج ملحوظ، إذ توارى الاجتماع وراء شعار «أخوي غير رسمي» لرفع الحرج وخفض سقف التوقعات.
إلى غاية الجمعة، يوم اجتماع الرياض «الأخوي غير الرسمي» لم يكن مؤكدا أن الفلسطينيين، رسميا وشعبيا، في الضفة وفي غزة، كانوا على اطلاع كافٍ بمضمون الخطة التي قيل إن مصر بصدد إعدادها لتكون بديلا لاقتراح الرئيس ترامب تهجير سكان القطاع وبسط السيطرة الأمريكية عليه. ومن المؤكد أن مصر ومن يشجعها على هذا التوجه لم يشرِكوا الفلسطينيين أو يستشيروهم في مضمون الخطة.
من الصعب رؤية أيّ جدوى في اجتماع حول القضية الفلسطينية، أو أيّ قضية أخرى بهذا التعقيد، يُغيّب عنه الطرف المعني بالأمر عن عمد. لذلك يحق التكهن بأن تغييب الفلسطينيين عن اجتماع الجمعة الغرض منه إزاحة ما اعتقدت الأطراف الحاضرة أنها عوامل معرقلة لما جرى نقاشه، وتسهيل التوصل إلى النتائج التي أرادتها هذه الأطراف. وهذا يقود إلى الاستنتاج أن الاجتماع ناقش، على الأرجح، أمورا قد لا تعجب الفلسطينيين.
من الممكن أن يكون تغييب الفلسطينيين ردا على صمت منظمة التحرير الفلسطينية عن تبنّي الطرح المصري، وخصوصا ما راج عن احتوائه إنشاء لجنة من التكنوقراط توكل لها إدارة قطاع غزة والإشراف على إعادة إعماره. كما يُفسَّر تغييب الفلسطينيين بموقف القيادي في المنظمة جبريل الرجوب «غير الودي» حيال مبادرة القاهرة، ومن ذلك قوله إن السلطة الفلسطينية لا تدعم الحديث عن إنشاء لجنة من التكنوقراط تتولى قيادة غزة لأن ذلك، في رأيه، سيكون بداية تقسيم دائم بين الضفة الغربية والقطاع (صحيفة الغارديان 16 شباط/فبراير الجاري).
إذا كان تغييب حركة حماس مفهوما بسبب موقفها المتناقض تماما مع الموقف الرسمي العربي، وبسبب أن حضورها في أيّ عمل رسمي عربي تترتب عنه مسؤوليات ومحاسبة أمريكية وأوروبية لا قِبل للقادة العرب بها، يبقى اللافت تغييب محمود عباس والسلطة الفلسطينية عن اجتماع يناقش مستقبل غزة في هذه الظروف الاستثنائية. وإحدى الأفكار المطروحة عربيا لغزة أن تتولى السلطة الفلسطينية إدارتها بعد الحرب الحالية.
من الصعب أن يُسوِّق أصحاب القرار تغييب عباس بسهولة، وهو المعروف عنه بأنه مرن جدا في مواقفه ويتماهى مع التوجه العربي «المعتدل» من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وليس واردا في أيّ لحظة وبأي شكل أن يكون حضوره معرقلا أو يشكل إزعاجا في أي اجتماع أو يترتب عنه حرج أو أسئلة يتحتم على الذين استضافوه الرد عليها.
التفسير الأكثر ترجيحا هو وجود نية مبيّتة لحل المعضلة الفلسطينية من دون الفلسطينيين.
لا يفيد إصرار بعض الإعلام العربي على تكرار أن اجتماع الرياض كان «أخويا» ولا يحمل أيّ صبغة رسمية. الأُخوَّة لا تتناسب مع تغييب «الأخ» عن اجتماع يبحث مصيره المهدد بأكثر من شكل. مثل هذا التبرير ينشر انطباعا بأن المراد من ورائه طمأنة العرب الذين غُيّبوا عمدا عن الاجتماع، وأولهم الفلسطينيون، بأن لا شيء فاتهم وبأن ليس في الأمر ما يدعو لغضبهم أو استيائهم.
مقارنة بحال الرئيس محمود عباس، يبدو نظيره الأوكراني في وضع أفضل بعض الشيء. لا يمتلك فولوديمير زيلينسكي القدرة على ليّ ذراع الرئيس ترامب وأركانه، لكنه يستطيع أن يحشد له الأوروبيين ويؤلِّب عليه الأوكرانيين. يستطيع زيلينسكي أن يتحدى ويهدد بالانسحاب إذا كان ذلك سيصب في مصلحة بلاده وشعبه، وقد فعل. كما يجد الرجل بعض العزاء في كون ترامب متقلب المزاج، والموقف الذي يتعنت فيه اليوم قد يتراجع عنه بسهولة غدا إذا رأى في الأمر صفقة مفيدة.
في المقابل لا يملك عباس شيئا يقنع به نظراءه العرب الذين سيمسكون بمصير القضية الفلسطينية. لا يملك ورقة يساومهم بها أو ثروة يغريهم بها. لا يجرؤ على التهديد بالاستقالة مثل زيلينسكي. حتى داخليا يبدو عباس في حالة يرثى لها وهو في هذا العمر يقطع المرحلة الأكثر خطورة له شخصيا ولمستقبل شعبه معزولا بلا سند شعبي، عكس زيلينسكي الذي يلتف من حوله الأوكرانيون إلى حد بعيد.
في التشابه بين الحالة الفلسطينية والأوكرانية تعبير صارخ عن منحى جديد يتوجه إليه العالم عنوانه أن الأقوياء يحلُّون النزاعات في محيطهم بالطريقة التي تناسبهم رغما عن رأي أصحابها ودون الحاجة لانتظارهم، وبعيدا عن شعارات رفع الظلم وتحقيق العدالة. وفي هذا المنحى الجديد لفرض الحلول تسمو المصلحة الفردية فوق غيرها ويصبح العمل الدبلوماسي براغماتية قاسية لا مكان فيه للعواطف والطيبة المفرطة.
توفيق رباحي
تعليقات الزوار
لا تعليقات