دخل دونالد ترامب البيت الأبيض في فترته الرئاسية الأولى جاهلا بكل شيء ومجردا من أيّ أسلحة إلا طموحاته الجامحة وأحلامه المؤجلة، ومحاطا بشلة من الأقارب والأصدقاء السطحيين والهواة والحاقدين.
لكن على خلاف فترته الرئاسية الأولى، دخل ترامب البيت الأبيض هذه المرة في سياق مختلف تماما وخطير. عاد متسلحا بأحقاده وحساباته المؤجلة وبرغبة جامحة في الانتقام. لكن الأهم أنه عاد متسلحا بما تعلَّمه من تجربته الأولى ومحاطا بشلّة من المقرّبين والأوفياء الذين اكتسبوا خبرة إما بفضل الممارسة في الفترة الأولى أو فقط من المتابعة ومحاولة التعلّم.
هذا ما يفسر اندفاع ترامب والفريق العامل معه إلى اتخاذ قرارات صادمة وإصدار تصريحات خطيرة أصابت العالم، وحتى من يعرفون ترامب وتفكيره، بذهول كبير.
مضمون الرسالة التي حملتها قرارات وتصريحات الأسابيع القليلة الماضية أن ترامب 2 مختلف وأخطر مقارنة بالفترة الأولى. وخطورته تكمن في أنه يعرف ماذا يريد ولا أحد سيثنيه عن خططه أو يقنعه بالتراجع عنها.
هذه التصرفات والقرارات والسياسات ستُدخل صاحبها التاريخ حتما. لكنها خطر على الولايات المتحدة والأسس التي قامت عليها والتفكير الذي به بسطت هيمنتها على العالم منذ الحرب العالمية الثانية. بتعبير أوضح ترامب بصدد كسر القواعد التي أرستها أمريكا للهيمنة على الكرة الأرضية ومن ثمة تقليص القوة الأمريكية ونفوذها عبر العالم.
بمنطق الانعزاليين المحيطين بترامب وجهلهم المطبق، لا بأس من تراجع الولايات المتحدة، فهذا هو الصواب والمطلوب، في نظرهم، لأنهم يؤمنون بأن بلادهم تتصدق على شعوب العالم مقابل لا شيء. لكن الحقيقة أن هذه «الصدقات» هي التي أثمرت سطوة الولايات المتحدة على اقتصاد العالم وثرواته، من الهيمنة على النفط العربي إلى سرقة المعادن الثمينة في أفريقيا، وهي التي حققت تفوقها الاستراتيجي وانتشارها العسكري عبر العالم ليشمل محيطات لا نهاية لمساحتها وجزرا صغيرة لا تتسع لهبوط طائرات متوسطة الحجم.
بعض المحللين يُشبّهون تصرفات ترامب اليوم بتصرفات ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين في نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي. نهاية تلك التصرفات كانت انهيار الاتحاد السوفييتي بسرعة لم يتقبلها العقل البشري.
منذ الحرب العالمية الثانية استمدت أمريكا «عظمتها» من حضورها المتعدد الأشكال في كل الأحداث التي شهدها العالم.. مرة بافتعالها في شكل حروب وانقلابات ومؤامرات، ومرة أخرى بتوجيهها وثالثة بإنهائها وفق مسار معين دون آخر، إلخ. والغياب عن المسرح العالمي، كما يريده ترامب وفريقه، يعني ترك الفرصة للصين تملأ الفراغ وتدير المكان. والأهم أن الغياب هو الوصفة المثالية للتراجع وبداية الاختفاء.
قد لا تنهار الإمبراطورية الأمريكية بطريقة انهيار الاتحاد السوفييتي ذاتها، لكن لا يمكن لأفعال ترامب المنفلتة أن تمر من دون عواقب على الولايات المتحدة.
قد يبدو ذلك اليوم بعيدا ومن ضروب المستحيل، لكنه بحسابات التاريخ قريب وممكن جدا. ليس ضروريا وأكيدا أن نرى هذه العواقب الأسبوع المقبل أو العام بعد المقبل، لكنها واردة لا مفر منها، والسؤال هل وليس متى.
هناك أطراف تنتظر هذه اللحظة. وارد جدا أن الصين وروسيا تستعدان لها وتعملان على التعجيل بها. ومن الوارد أيضا أن الأوروبيين يتوقعونها ويخشونها حتى لو أنهم لا يريدونها. لكن أين العرب؟ غائبون غيابهم الدائم المعهود. العرب أكثر من ينطبق عليهم قول «الحاضر الغائب»: هم عنوان رئيسي في أغلب المعضلات الأمريكية لكنهم بلا تأثير يُذكر ودائما في وارد المتلقي.
أقصد بالتحديد الحكام العرب، هم أصحاب القرار وهم الذين يتسابقون للتقرب من الولايات المتحدة وكسب ودِّها. يُنسب للرئيس الباكستاني الراحل ضياء الحق قوله إن التعامل مع أمريكا مثل التعامل مع تاجر الفحم، تقترب منه تتسخ بالسواد. وقال آخرون إن المتغطي برداء أمريكا عارٍ. بالنسبة للحكام العرب ترامب سيكون تاجر الفحم والممسك بالرداء. في عهده سيكون قادة الدول العربية الأكثر عرضة لتسلطه الذي من الواضح أنه لا يراعي لهم ظرفا أو ودًّا ولا يستثني منهم أحدا، لا كأشخاص ولا كدول ولا كمنظومات حكم، ولن يتورع عن إهانة من يستطيع إهانته منهم علنا دون أن يرف له جفن.
هذه فرصة القادة العرب للمِّ صفوفهم والاستعداد للأسوأ. لا أحد ينتظر منهم حشد الجيوش والقوة العسكرية لخوض معارك عسكرية ضد أمريكا. وليس مطلوبا منهم تشكيل تكتل اقتصادي لإعلان حرب تجارية عليها. المطلوب العمل جماعيا على تقليص الخسائر والحفاظ على الحد الأدنى من الكرامة، لأن كابوس ترامب لن يؤذي الفلسطينيين وحدهم وإنما سيشمل جميع المنطقة، والمطلوب ممن يتحكمون بمصير المنطقة حمايتها، وأنفسهم، فأقل الواجب أن يدافع المرء عن حرمة بيته وممتلكاته.
هناك جهد عالمي يتشكل من دون قصد، ترامب أرسى بذوره الأولى، ستكون نهايته تآكل الإمبراطورية الأمريكية تمهيدا لنهايتها. المطلوب من العرب أن يكونوا جزءا من هذا الجهد ولو بالحد الأدنى، تماما كما التقت أمريكا وأوروبا وأطراف أخرى في الجهد الذي أرسى أسسه غورباتشوف وعززه بعده يلتسين وكانت نهايته تآكل الاتحاد السوفييتي ثم انهياره.
سيحفظ التاريخ أن العالم لم يشهد ظلما وتنمرا ودوسا على القوانين والأعراف مثلما يفعل ترامب وحليفه بنيامين نتنياهو. لكن سيحفظ التاريخ أيضا أن الرجلين، بصلفهما وغرورهما، وفّرا للقادة العرب كل أسباب رفع الرأس والفكاك من أمريكا وتغوّلها. آخر هذه الأسباب وأهمها الغطرسة بحق العرب، ثم كذب وبشاعة نتنياهو في مقابلته مع فوكس نيوز، وقبل ذلك تطاوله على دعوة السعودية بدعوتها لتخصيص جزء من أرضها لإقامة دولة فلسطينية، على الرغم من أن الرياض لم تفوّت فرصة لتبلغ الأمريكيين استعدادها للتطبيع مع إسرائيل ضمن شروط ليّنة.
إذا لم يغتنم العرب هذه الفرصة للتحرر من ترامب وأمريكا ونتنياهو وإسرائيل، سيدفعون الثمن باهظا، في المدى القريب على يد ترامب ونتنياهو، وفي المدى البعيد على يد الولايات المتحدة وإسرائيل. وسيكون الثمن المزيد من هدر سيادة بلدانهم المهدورة أصلا، وعروشهم إن كانوا مؤمنين بعدُ بأن خضوعهم لأمريكا حماها وسيحميها.
توفيق رباحي
تعليقات الزوار
لا تعليقات