أخبار عاجلة

عندما يبالغ الجزائري في التسييس ونظرية المؤامرة

«الإنسان ذو البعد الواحد» عنوان كتاب قديم للفيلسوف الألماني الأمريكي هربرت ماركوز، عدت له هذه الأيام وأنا أقرأ واستمع إلى مواقف بعض الجزائريين، بمن فيهم من يُحسب على النخبة السياسية والجامعية، وهو يسيس بشكل مفرط موقف التلاميذ الذين خرجوا للاحتجاج بشكل شبه جماعي على المستوى الوطني، ضد ما اعتبروه ثقلا مبالغا فيه يعاني منه البرنامج الدراسي في المراحل الدراسية الابتدائية والثانوية، المعتمد على التلقين والحفظ، في وقت قد يكونون فيه في حاجة، وهم في هذه السن الصغيرة، إلى ترفيه ونشاطات رياضية وفكرية أكثر ملاءمة لسنهم، تترك لهم الوقت لإنجاز نشاطات تعليمية متنوعة داخل وخارج المدرسة، يكتشفون فيها قدراتهم العقلية، لتطويرها والاستفادة منها وليس إلى دروس بليدة لم تعد النظريات التربوية تقبل بها في كل دول العالم المتقدم، وليس الجزائر فقط.
تسييس مبالغ فيه تميز بالكثير من الشطط وهو يتعامل مع هذا الاحتجاج العفوي، الذي يطرح لأول مرة في الجزائر مسألة ضرورة الإصلاح النوعي للمدرسة، كانت وراءه، كما تعودنا في الجزائر، نظرية المؤامرة التي ربطت بين هذه الاحتجاجات التي قام بها أطفال وشباب يريدون أن يعيشوا وقتهم ويتمتعوا بسنهم، بدل البقاء لساعات في أقسام مكتظة لتلقي برنامج ثقيل لا يحترم ذكاءهم ومواهبهم، تم ربطها بقوى دولية وإقليمية، كما حصل مع إضرابات طلبة الطب الأخيرة، تريد الشر بالجزائر ودولتها الوطنية، وهي تروج لهذه الحركات الاحتجاجية الشبابية، التي طرح حولها السؤال الجزائري القاتل، لماذا في هذا الوقت بالذات؟

ذهب البعض إلى ربطها بشخص الوزير نفسه، الذي تكون هذه الاحتجاجات، حسب وجهة النظر هذه، موجهة ضده من قبل قوى سياسية وفكرية معادية، لأنه ابن الجنوب، أو لأنه ينتمي إلى تيار وطني محافظ، أو لأن ابنه حافظ للقرآن الكريم ـ نعم هذا ما كتبه البعض، على الوسائط الاجتماعية، لنكون مرة أخرى مع ما يمكن تسميته بـ(متلازمةsyndrome ) ـ علي بن محمد وزير التربية الأسبق ـ التي عشناها في بداية التسعينيات عندما كانت الجزائر تمر بحالة اضطراب سياسي وأمني، لم يحصل بالطبع حولها أي تحقيق لمعرفة من كان وراءها فعلا، كما كان الحال مع الكثير من القضايا المشابهة.
نقاشات يغلب عليها الطرح السياسي، وكأن الجزائر لا تملك من المشاكل إلا السياسي منها، مع إضافة نكهة تآمرية، تعكس ما يميز النقاش حول المنظومة التعليمة ـ توسعت مع الوقت إلى كل المواضيع تقريبا – تحيل إلى خلافات حقيقية أو مفتعلة بين قوى سياسية وفكرية تعودت على الصراع حول المدرسة منذ استقلال البلد، لم يتوافق الجزائريون لحد الساعة وبعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال على الإصلاحات التي يجب أن تدخل عليها، بعد أن تضخمت وتكلست وفقدت جل علاقاتها مع محيطها الاقتصادي والاجتماعي، أصبحت تدور في الفراغ إذا أردنا أن نختصر الموضوع ولا نطيل على القارئ.
منظومة تعليمية تتصارع حولها تيارات فكرية وسياسية، بما أوتيت به من مصادر قوة نتيجة سيطرتها على جزء من مراكز القرار، ما يزيد حتما في إضعاف مؤسسات الدولة، التي تريد أن تعيد إنتاج نفسها من خلالها على غرار ذلك المعرب المحافظ، وحيد اللغة، الذي يريد أن ينتج تلميذا يشبهه تماما، وكأن الجزائر ما زالت تعيش في ثلاثينيات القرن الماضي، مثل زميله المفرنس، الذي لا يعرف من العالم إلا فرنسا القديمة، ومن بعيد في الغالب، لغتها وجزءا من ثقافتها، لا يرى بديلا عنها كحل لمشاكل المنظومة التعليمية الوطنية، أعماه موقفه الأيديولوجي من اللغات أوصله إلى حد معاداة الإنكليزية ولغات العالم الأخرى.
صورة كاريكاتيرية اخترتها عن قصد لتبيان ما أريد الوصول إليه، أعرف أنها لم تعد حاضرة بهذا الشكل الفج، لكنها تبقى تفسر الصراعات بين الجزائريين عندما يتعلق الأمر بالمدرسة تحديدا، خاصة إذا أضيفت لها بعض توابل النظرة التآمرية، الحاضرة بقوة بيننا، لتقوم بعدة وظائف على رأسها ذلك الشعور بالسكينة والهدوء الذي ينتاب الجزائري عندما يقرر، أن بلده يتعرض إلى مؤامرة دولية وإقليمية تعفيه من كل مسؤولية فردية كمواطن، ماذا يمكن أن يفعل إنسان وحيد ضد كل العالم الذي يتآمر ضده؟ في وقت تقول فيه الوقائع على الأرض إننا في حاجة إلى فتح نقاشات واسعة بيننا كجزائريين – بما تتطلبه من مؤسسات للنقاش الاجتماعي على غرار وسائل الإعلام وحريات أوسع، ما زالت غائبة عندنا – لحل مشاكل منظومتنا التعليمية التي زاد فيها منسوب الهدر، كما يمكن ملاحظته بشكل يومي وهي تتحول إلى مدرسة تشتغل لصالح المنظومة التعليمة الفرنسية من الباطن، كما يقول الاقتصاديون، تصدر لها الكفاءات بشكل مجاني، أفرغ البلد من فئاته الوسطى المتعلمة ـ بكل الآثار التي يمكن أن توقعها نتيجة هذه الحالة الشاذة على مستقبل البلد وتوازناته السوسيو-سياسية والثقافية – تحولت فيه الفئات الوسطى الجزائرية المتعلمة تحديدا إلى منتج أول للكفاءات، تقوم بتصديرها إلى الضفة الشمالية للمتوسط بشكل يومي وسافر، عبر استراتيجيات معقدة وطويلة المدى تنجزها العائلة الجزائرية بالمجان، تستفيد منها اقتصاديات المجتمعات الغربية وليس فرنسا فقط، بعد أن توسعت الهجرة إلى مجالات جغرافية جديدة لم تكن معروفة عند الجزائريين في السابق.
تسييس ونظرة تآمرية غالبة تجعل الجزائريين لا ينظرون إلى بقية المشاكل العويصة التي يعيشها البلد، ويعجزون بالتالي عن التطرق وإيجاد الحلول لها كأي مجتمع حي عادي في العالم، تتطور مشاكله وتتنوع مع الوقت، يكون حلها من مهام الأجيال الجديدة، لا تبقى حبيسة جيل واحد يريد أن يحتكر تاريخ البلد بإيجابياته وسلبياته لا يترك فرصة للأجيال الصغيرة، لكي تكبر وتساهم في طرح مشاكلها وإيجاد الحلول لها، كما فعل تلاميذنا وهم يخرجون للشارع بهذا الشكل الجماعي والسلمي، في مختلف ربوع البلاد وهم يستعملون أدوات عصرهم كجيل – الوسائط الاجتماعية ـ وليس الحزب والنقابة والجمعية، التي كانت أدوات أجيال أكبر أفلست ولم توفق في الغالب في حل الإشكالات المطروحة. خيارات زادت في الرفع من منسوب النظرة التآمرية عند هؤلاء الكهول الذين يحكمون البلد من داخل وخارج المدرسة، التي يريد تغييرها الشباب وتحسين أدائها للتوافق مع القرن الجديد الذي يريدون العيش فيه ورفع التحديات العديدة والمتنوعة التي يطرحها عليهم.

ناصر جابي

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات