طوف في سوق، في بلدة تبعد عن الجزائر العاصمة مسير بضع مئات من الكيلومترات، وألمح طاولات تعرض خضراً وفواكه، في بلدة لا يرد ذكرها إلا إذا وقع فيها حادث سير، أو نشب فيها حريق، بينما أصوات الباعة تعلو من حولي، وألسنتهم لا تخلو من ذكر الله في دعوة الزبائن إلى اقتناء سلعهم، تماماً مثل اللافتات التي يعلقونها، والتي تربط جودة الخضر بفضل الله، بينما هؤلاء الباعة يعفون لحاهم، فنشعر كأننا في سوق دينية وليست سوقا يومية، فقد جرت العادة، في شمال البلاد وجنوبها، أن من يود الترويج لسلعة، فلا بد أن يستعين باسم الله، وذلك يكفيه في إقناع الناس بمبتغاه، ولن يحتاج في الدفاع عنها إلى ذكر مصدرها أو مدح جودتها، أو الإشارة إلى سعرها، الذي يحتمل أن يكون في متناول الناس. بل تكفيه طاقية الدين، ومن يرضى بالدين فلن يعارض سلعة تستعين بالدين، ونعلم أن الجزائر صارت بلاداً متدينة، والتجار فهموا الدرس.
بل إن حفلات الزفاف التي يفترض أنها ساعات فرح، ينشرح فيها القلب، وينصرف فيها الناس إلى رقص وأكل وثرثرة، باتت بدورها مناسبات دينية، فقد أتيح لي حضور حفل زفاف في تلك البلدة النائية، وتخيلت نفسي أقصد حفلاً يسود فيه فرح على إيقاع الموسيقى وأوركسترا وغناء، لكنني وجدت نفسي محشواً في قاعة تعلو فيها مدائح دينية، بأصوات فرقة تردد الأناشيد، تذكر الحاضرين في مدائح رسول الإسلام، مثلما تذكرهم في عذاب القبر ولذائذ الجنة. هكذا انقضى حفل الزفاف بوجوه شاحبه تخلو من الانشراح، في صمت بدل هرج. فقد وقعت تغيرات متتالية، في السنين الأخيرة، نراها بالعين المجردة، من غير أن نعلق عليها، كأنها تحصيل حاصل، أو أنها أمر عادي يعلو عن النقاش، وأن من يخوض في هذه السلوكيات فإنه ينكر الدين.
وإذا واصلنا المشي بين أزقة تلك البلدة، فسوف نصادف محلاً يبيع ورقاً وأدوات مدرسية، ويسمي نفسه (مكتبة)، لأنه يعرض بعض الكتب، لكنها ليست كتباً علمية، ولا كتب أطفال، لا روايات ولا شعرا، بل هي كتب في التفسير والحديث وفي العلاج الطبيعي، مثلما يطلقون عليه. هكذا الحال في الكثير من بلدات الجزائر، فالأمكنة التي يباع فيها الورق والأقلام إلى جوار كتب الفقه وتفسير الأحلام تسمى مكتبة. أما في تلك السوق، التي طفت فيها ساعتين، لا تدخل إليها امرأة إلا إذا بلغت من الكبر عتياً، بينما اليافعات فلا أثر لهن، لأن السوق تحول بدوره إلى محمية ذكورية. كما إن العلاقة بين أغنياء وفقراء كذلك صارت موضوعاً دينياً، وليست مسألة رأفة إنسانية بين شخص ميسور الحال، وآخر في حاجة إلى عون.
شاعت في الجزائر، في السنين الأخيرة، جمعيات خيرية، تعنى في مساعدة الفقراء، في تزويج العزاب، أو تنظيم حفلات ختان للأطفال، وهي جمعيات تكاد تنوب عن الدولة في واجباتها إزاء المحتاجين، لكنها تقوم بعملها، في الغالب، من منظور ديني، وليس في المساعدة من أجل وجه الإنسانية. تمارس نشاطها كمن يقوم بواجب ديني. ثم يروجون لأفعالهم على صفحات السوشيال ميديا، وينقلبون بذلك على الدين، يخادعون الله ويبطلون صداقاتهم بالمن. هذه الحالة صارت تجعل الكثير من المحتاجين يتعففون عن مد يدهم إلى هذه الجمعيات الخيرية، خشية أن يتحولوا إلى صورة، أو فيديو بين الناس، فتصير الصدقة فضيحة. فقد تغلب الدين على الوازع الإنساني. وتحولت بعض الجمعيات الخيرية إلى غرفة خلفية، في استدراج مواطنين إلى صناديق الاقتراع، بحكم أن بعض تلك الجمعيات ترتبط بأحزاب ذات نزعة دينية. هذه النشاطات الخيرية، التي لا تلتزم بروح إنسانية، يرجى منها مصلحة في القريب العاجل. لا تهمها مصلحة المحتاج أو مصلحة الإنسان في العموم، بقدر ما تهمها مصلحتها منه. وإن لم يحصلوا على مكسب منه في الدنيا، فإنهم يمنون أنفسهم مصلحة من الله، كما يقولون. فعندما يقدمون دعماً إلى محتاج فإنهم يترقبون كذلك جواباً من السماء.
لم يعد الإنسان مهماً، بل تلبية رغبة شخصية هي الأهم. لم يعد يعنيهم التفريج على كرب شخص، بقدر ما يهمهم الجزاء الذين سوف ينالونه. إنهم لا يفكرون في الحال الذين أوصل الناس إلى فقر أو حاجة، لا يفكرون في شؤون العدالة والمساواة، من أجل الخفض من أعداد المحتاجين، بقدر ما يهمهم استدراج محتاجين في الاصطفاف مع حزب أو آخر، والتصويت على مرشح أو آخر. هذا الوضع يذكرنا في الظروف التي نشأ فيها حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، في الجزائر، في آواخر الثمانينيات من القرن الماضي، الذي كسب انتخابات البلدية عام 1990، ليس بفضل برنامج سياسي، ولا بفضل مقترحات في تطوير الاقتصاد، بل بفضل حملة ترويج واسعة، نشر فيها صوراً عن الأعمال الخيرية التي قام بها في مساعدة المتضررين من زلزال ضرب مدينة تيبازة. تلك المبادرة الخيرية جعل منها عماداً في حملته الانتخابية، وكسب منها الرهان، مستفيداً من خطابات يتكرر فيها اسم الله، وفي المن على مساعدة المحتاجين. فالمبادرات الخيرية، لم يعد يعنيها الإنسان في الغالب، بقدر ما تعنيها المصلحة السياسية من مساعدة الغير. فقد بات الدين يحدد العلاقة بين الأفراد، بديلاً عن المنطق أو العدل. وأتذكر واقعة حكتها لي صديقة، وهي مهندسة معمارية. تقدم إليها أشخاص قدموا أنفسهم بصفة «محسنين». وطلبوا منها خطة مشروع من أجل تشييد مسجد. فقامت بواجبها، الذي استنزف منها أياما من العمل والتعب والانصراف عن واجباتها العائلية والمهنية الأخرى. وسلمت لهم المطلوب في المهلة المتفق عليها. ثم انقضت أشهر، وبدأ المسجد في الظهور، فطلبت منهم مقابلاً جراء التعب، أن تقبض حقها، فنظروا إليها في حيرة، مثل من ينظر إلى كائن نزل من الفضاء: تطلبين مقابلاً من بناء بيت الله؟ كلامهم جعلها تشعر بحرج، كأنها طلبت أمراً منكراً. وكذلك تسير الأمور، في الجزائر، فالناس يعلون من شأن الدين والآخرة، بعدما هجروا الدنيا، أو ملوا من المكوث فيها.
سعيد خطيبي
تعليقات الزوار
لا تعليقات