يبدو أن البرلمان الجزائري قد تلقى الضوء الأخضر لطرح مشروع قانون تجريم الاستعمار، بعد عقود من الأخذ والرد حول هذا الملف الشائك. ويأتي هذا القانون في حال تم تبنيه فعليا، في سياق الرد الجزائري على الحملات العدائية التي تواجهها البلاد في الأشهر الأخيرة، خاصة من قبل تيار اليمين المتطرف الذي وصلت بعض وجوهه للحكم في فرنسا.
وفي تصريحات لافتة، أكد رئيس المجلس الشعبي الوطني في الجزائر إبراهيم بوغالي لقناة الشروق، أن الوقت حان للتخلي عن موقع الدفاع والمبادرة بالهجوم دفاعا عن الجزائر، من خلال طرح قانون تجريم الاستعمار، باسم الشعب الجزائري حصرا لا باسم حزب أو كتلة، وذلك في سياق حديثه عن الأزمة الدبلوماسية الراهنة بين الجزائر وفرنسا والتي أخذت أبعادا غير مسبوقة.
وأكد رئيس الغرفة الاولى للبرلمان، أنّ “الطريق بات مفتوحاً لصياغة قانون لتجريم الاستعمار، بعد رفع السلطة السياسية تحفظاتها بشأن مقترحات سابقة لصياغة القانون”، على حد قوله. وتحدث هنا، عن وجود توافق بين السياسة الخارجية التي يحدد معالمها رئيس الجمهورية وبين الدبلوماسية البرلمانية التي أكد أنها لا تخرج عن الإطار العام الذي يتبناه الرئيس، وهو ما تجمع عليه كل الأحزاب الممثلة في البرلمان، وفق تأكيده.
وعن مبررات طرح القانون، قال بوغالي “لا شكّ أنّ الحملات العدائية الفرنسية المتواصلة التي تهدف إلى تشويه صورة وسمعة الجزائر، تستوجب طرح هذا القانون”، مبرزا ضرورة “الكف من البقاء في وضع الدفاع، فقد حان وقت الهجوم”. وشدّد الرجل الذي ينتمي للأغلبية الرئاسية، على أنه لن يكون هناك أي تسامح مع أي جهة تحاول ضرب مصداقية الجزائر، قائلا “هذا البلد أمانة من الشهداء، ونحن مكلفون بالحفاظ عليه وصونه”.
واعتبر بوغالي أنّ الجزائر تمتلك كل الأدلة والأوراق اللازمة لإثبات جرائم فرنسا، مبرزا أنّ “فرنسا لم تكن صادقة، وحان الوقت لوضع الأمور في نصابها”، كما أشار إلى أنّ “وضع جماجم الشهداء في متحف الإنسان (بباريس) استفزاز للشعب”.
وفي تعليقه على التصريحات الاستفزازية الفرنسية، خاصة من قبل وزير الداخلية اليميني، برونو روتايو، قال بوغالي إنّ “عدو الأمس ما زال يعتقد أن الجزائر مستعمرة، نحن أحرار وقراراتنا سيادية والاختيار دائماً للشعب”. ولفت المسؤول إلى أنّ “تقليص حصص فرنسا اقتصادياً وسياسة الند بالند أزعجتها، مما دفع بالمسؤولين الفرنسيين إلى خرجات دون المستوى”.
وسبق للبرلمان الجزائري وفق ما ذكر بوغالي، أن طرح قانون تجريم الاستعمار سنة 2006، كرد على قانون تمجيد الاستعمار الذي أرادت فرنسا تبنيه سنة 2005 في ظل رئاسة جاك شيراك. لكن القانون الجزائري تم تعطيله بمبررات عدة، منها عدم الرغبة في الإضرار بالعلاقات مع فرنسا، وظل يستعمل من حين لآخر كورقة ضغط جزائرية كلما تأزمت العلاقات بين البلدين، لكن دون أي إرادة حقيقية في اعتماده.
وشهدت بدايات العهدة الأولى للرئيس عبد المجيد تبون، محاولات لإحياء المشروع لكن دون جدوى. ففي شباط/ فبراير 2020، اقترح 50 نائبا في المجلس الشعبي الوطني، مبادرة قانون لتجريم الاستعمار، تنص على “اعتراف فرنسا بجرائمها وأفعالها إبان احتلالها للجزائر من سنة 1930 إلى 1962 والاعتذار عنها حق مشروع للشعب الجزائري غير قابل للتنازل”. وأشار مقترح القانون إلى أن أشد الجرائم خطورة، هي الإبادة الجماعية ، جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب”، مبرزا أن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم.
واعتبر مقترح القانون أن مسؤولية الدولة الفرنسية قائمة عن كل الجرائم التي ارتكبتها جيوشها في حق الشعب الجزائري إبان فترة الاحتلال، ونص على أن “الشعب الجزائري تعرض إلى أبشع أنواع واخطر أنواع الجرائم خلال فترة الاحتلال، مازالت أثارها وتأثيراتها إلى يومنا هذا”. واعتمد أصحاب المبادرة على اعترافات عن تلك الأفعال والممارسات وردت عن مجرمي حرب فرنسيين، كانوا “يتباهون ويتفاخرون بجرائم إبادة قبائل بأكملها وحرق قرى ومداشر برمتها والقضاء على عائلات بأكملها بنسائها وأطفالها وشيوخها في جميع أنحاء البلاد”.
لكن هذا المقترح الذي صاغه الإسلاميون لم ير النور. وذكر النائب ناصر حمدادوش، عن حركة مجتمع السلم، حينها على صفحته الرسمية أن ثمة من يقوم بعرقلة تمرير القانون، متسائلا عن الغاية من إجهاض المبادرة الأخيرة الخامسة في مساعي نواب البرلمان، على الرغم من استيفائها كل الشروط القانونية، وإيداعها لدى مكتب المجلس الشعبي الوطني.
وتلا ذلك سنة 2021 بعد انتخاب البرلمان الجديد، تقدم أكثر 100 نائب في المجلس الشعبي الوطني، بمقترح قانون لتجريم الاستعمار. وقام النائب بلخير زكريا بإيداع المشروع مندوبا عن أصحاب المبادرة، تزامنا مع ذكرى أول نوفمبر وهو تاريخ انطلاق الثورة التحريرية ضد المستعمر الفرنسي سنة 1954، لكن هذا المشروع أيضا بقي حبيس الأدراج.
ولعلّ ما يجعل الوقت مناسبا اليوم لتبني القانون، وفق مراقبين، تكرر نفس مشهد سنة 2005 عندما حاول البرلمان الفرنسي اعتماد قانون تمجيد الاستعمار، ولو بظروف مختلفة. فاليمين المتطرف الذي أصبح قوة سياسية كبرى في فرنسا، يتحدث اليوم بنفس خطاب تمجيد الاستعمار وذكر “إنجازاته” المزعومة، مع الإنكار التام لكل الجرائم التي ارتكبها بحق الجزائريين.
وفي آخر تصريحاتها، ذكرت مارين لوبان متزعمة حزب التجمع الوطني، أن “الاستعمار الفرنسي في الجزائر لم يكن مأساة”. وقالت على قناة أل سي إي الاربعاء: “أستطيع أن أفهم أن الناس يريدون الحصول على الاستقلال، ولكن أعتقد أن القول بأن الاستعمار كان مأساة بالنسبة للجزائر ليس صحيحاً”. ورأت رئيسة الكتلة البرلمانية لحزبها ( التجمع الوطني) في الجمعية الوطنية، والتي خدم والدها في الجيش خلال حرب الجزائر، أن “فرنسا قدمت للجزائر اقتصادياً، من حيث البنية التحتية، رأس المال الضروري لتمكينها من التطور والتحول إلى نرويج المغرب العربي”.
وكانت مارين لوبان، قد قالت في عام 2017 إن الاستعمار “جلب الكثير” إلى البلدان المعنية مثل الجزائر. وذكرت على وجه الخصوص “المستشفيات أو الطرق”. وقالت زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا: ماذا يفعل الشعب الجزائري الذي حصل على استقلاله بدلاً من العمل لبناء ثروة بلادهم؟.. يغادرون أو يفرون أو يذهبون، من بين أماكن أخرى، إلى فرنسا. وهذا يعتبر إعلاناً عن فشل الزعماء الجزائريين، وهو أمر فظيع”.
وينظر الجزائريون في عمومهم باحتقار لهذه التصريحات التي تحاول اللعب على مغالطة تاريخية، فالاستعمار الفرنسي شيّد بنى تحتية لخدمة المعمرين وليس الجزائريين الذي كانوا يرزحون تحت الجهل والفقر المدقع. وكان الرئيس الجزائري قد صرح في أكثر من مناسبة بأن الجزائر قدمت 5 ملايين و630 ألف شهيد خلال كامل الفترة الاستعمارية التي دامت 132 سنة، مكررا مطالباته لفرنسا بالاعتراف بجرائمها في الجزائر كاملة لبناء علاقات طبيعية.
تعليقات الزوار
لا تعليقات