أخبار عاجلة

إضراب الأطباء تحيل مسألة مكانة النخب العلمية في الجزائر

الإضراب العام الذي تشهده كليات الطب في أكثر من جامعة جزائرية، منذ عدة أيام هو الذي جعلني أعود مرة أخرى للكلام عن الإصلاح الجامعي المتعثر في البلد، ما زلت عند قناعتي الأولى بصدده، يمكن تلخيصها في هذه الفكرة التي تبنيتها منذ مدة طويلة، اعتمادا على تجربة أكثر من ثلاثين سنة من التدريس الجامعي .ان رئيس الجمهورية الشرعي، صاحب المشروع الذي يفترض أنه غير خاضع للضغوط والابتزاز من القوى المعادية للإصلاح داخل وخارج الجامعة، هو الوحيد الذي يستطيع التصدي للمشاكل العويصة التي يتخبط فيها القطاع، الذي تضخم وتكلس بشكل يجعل تحسين أدائه مهمة لا يقدر عليها لا وزير القطاع، ولا رئيس الحكومة، نظرا للمصالح المتشابكة الحاضرة داخل الجامعة، التي تعودت الوقوف بالمرصاد في وجه أي عملية إصلاح مهما كانت متواضعة.
مصالح تدافع عنها بأشكال متعددة قوى اجتماعية منظمة وشُلل، تملك حضورا قويا داخل الجامعة، يمكن أن تعرقل أي إصلاح، كما حصل عدة مرات في السنوات الماضية، عن طريق تهديد الوزير ورئيس الجامعة والعميد، الذين تحولوا في الغالب الأعم إلى رهائن لدى نقابات العمال والجمعيات الطلابية، توسع الفساد الذي تسبح فيه، بشكل لا يصدق، اعتمادا على ما يمكن تسميته بالاقتصاد السياسي للفساد، بعد أن اكتشفت أنها مطلوبة للقيام بأدوار كثيرة، مكلفة بإنجازها لأصحاب القرار ومراكز القوى المتصارعة على رأس السلطة السياسية، كما هو الحال عندما تستدعى لتنشيط الحملات الانتخابية للقوى السياسية الرسمية النافذة. أكد لها بالملموس أنها هي الباقية داخل الجامعة في وقت يمكن أن يرحل الوزير والعميد في أي لحظة.
جمعيات طلابية وصلت إلى مرحلة إعادة الإنتاج الموسع في السنوات الأخيرة، استطاعت فيه أن تنتج جيلا جديدا من «الأساتذة» هذه المرة من أعضائها القدماء، وليس طلبة فقط، نصبتهم ضمن هيئة التدريس في الكثير من الجامعات، بعيدا عن أي شفافية في التوظيف، مستغلة حاجة القطاع إلى تجديد هيئته التعليمية، بعد التوسع الذي عرفه القطاع في السنوات الأخيرة. بالحضور الذي يميزها داخل المصالح الإدارية، وتلك المرتبطة بتسيير الخدمات الاجتماعية التي تملك هذه النقابات الطلابية علاقة خاصة بها كأرضية لكل أنواع الفساد الذي تعيشه الجامعة، لتتعاون كل هذه القوى الحاضرة داخلها على إفشال كل محاولة لإصلاح الجامعة. وهي تلجأ للإضراب والاحتجاج، وتعطيل المصالح البيداغوجية والإدارية في الجامعات، تعرف بالتجربة أن المسؤولين سيرضخون لها، بعد أن اكتشفوا أن المسؤول الفاشل في منطق التسيير الرسمي السائد هو ذلك المسؤول الذي تكثر الإضرابات عنده، دون الدخول في تفاصيل المشهد. ومدى مصداقية أسباب الاحتجاج وشرعيتها.

بالعودة إلى إضراب طلبة الطب والأطباء المساعدون – ليس من الضروري أن يكون معنيا بكل تفاصيل هذه المقدمة – الذي يطرح أكثر مسألة الفئات الوسطى الأجيرة في الجزائر التي تضررت وضعيتها الاقتصادية الاجتماعية والرمزية، بشكل خطير، حوّل هجرتها إلى فرنسا تحديدا، إلى حل أوحد أمامها، من هنا نفهم أهمية مطلب المصادقة على الشهادة النهائية المطروح من قبل المضربين، نتيجة تدهور شروط تكوينها وعملها، وهي تعيش حالة تأنيث، يمكن ملاحظتها بالعين المجردة، كما يظهر في مسيرات الاحتجاج والوقفات، قد لا تكون بعيدة عن حالة التشنج التي تعيشها، نتيجة ما عرف عن إضرابات النساء في العالم، وليس الجزائر فقط، من تميز ومطالب نوعية عادة ما تفشل علاقات العمل التي بنيت في الغالب، عندما كانت المرأة غائبة عن سوق العمل، في تلبيتها ليطول الإضراب وتظهر فيه مؤشرات أكثر للعنف، كما عاشته إضرابات الأطباء الطويلة – أكثر من ستة أشهر ـ التي حصلت في 2018 تم الاعتداء فيها على الأطباء والطبيبات عند محاولتهم الخروج في مسيرة إلى الشارع من مستشفى مصطفى باشا الجامعي. مسيرات كانت المرأة الطبيبة حاضرة فيها بقوة، قادت فيها المفاوضات وتعرضت للضرب مثل زميلها الرجل وربما أكثر. بالطبع هذه الإضرابات تحيل إلى أكثر من ذلك، فهي تحيل إلى مسألة مكانة النخب العلمية في البلد وهي تهمش وتبعد عن مراكز القرار الذي تربعت على رأسها فئات شبه أمية، اكتشفت أن من مصلحتها استمرار الوضع نفسه، الذي يخلق لنا هذه النقاشات التي ما زلنا نعيشها في البلد، حول النقاب والحجاب وغيرها من القضايا الشخصية، كما ظهر في جامعة الجزائر1 هذه الأيام التي تحول فيها لباس طالبة إلى قضية رأي عام وصراع أيديولوجي، يبين لنا أنه لم يحسم في الحالة الجزائرية، بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال، رغم كل الأهوال التي تسببت فيه القوى التي تقف وراء هذه الطروحات الأيديولوجية التي تعود كل مرة كوسيلة تلهية عادة ما تكون وراءها أوساط محافظة ما زالت حاضرة بقوة في الوسائط الاجتماعية ووسائل الإعلام التقليدية، كما هو حال القنوات التلفزيونية الخاصة التي لا تتورع عن الزج بالبلد كل مرة في صراعات وهمية من كل نوع، شبيهة بتلك التي كانت وراء حالة العنف في التسعينيات. يدور هذا النقاش في وقت تُفرغ فيه جامعاتنا من أحسن خريجيها الذين يتوجهون نحو الجامعات الغربية، بعد أن تحولت جامعاتنا، الموجهة نحو الفئات الشعبية إلى ما يشبه مدارس التكوين المهني. لم يعد صاحب القرار يعرف ماذا يفعل بها وبخريجيها، الذين زاد عددهم وتدهورت شروط تكوينهم، في انتظار البطالة التي ستكون لهم بالمرصاد، من مصلحتهم أن يطول بهم المقام داخل هذه الجامعة التي تحولت إلى دار حضانة للكبار.
صاحب قرار لا يتجرأ على طرح ملف الإصلاح الجامعي، نظرا لكلفته السياسية العالية، المطلوب دفعها بما تفترضه من تجنيد للعائلات الجزائرية والطلبة والأسرة الجامعية، للتفكير في حلول ستأخذ وقتا لتجسيدها. مزعجة للكثير من العادات السائدة كتلك الثقافة التي تصر على تحمل الدولة وحدها كل الكلفة المالية لتعليم أبناء العائلة، مهما كان وضعها الاقتصادي، التي لا تعني بالضرورة تخلي الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية، بل تعني تقديم عروض تعليمية أكثر تنوعا للجزائريين، بعيدة عن الطرح الشعبوي. مقاربة تتطلب من جهة أخرى تحكم في الإحصاء الاجتماعي ومعرفة دقيقة لتوزيع الدخل بما تفترضه من تحكم في النظام المالي وغيرها من الأمور التي تتطلب إدارة فعالة غير حاضرة في الوقت الحالي. باختصار الإصلاح الجامعي يفترض إصلاح الدولة ذاتها بالعلاقات التي تقيمها مع مختلف الفئات الاجتماعية، والمجتمع ككل، فهل نحن قادرون على إنجاز المهمة؟

ناصر جابي

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات