ينتظر القارئ، في الجزائر، وصول الكتاب دون جدوى. في المطار كما في الميناء، تصل أحذية وجوارب وقمصان وقماش، يصل مكياج وموبايلات من الصين وتايوان، يصل الخشب والفلين والبلاستيك والذهب والنحاس، تصل ألعاب أطفال مثلما تصل أسلحة ومُتفجرات، كل شيء بوسعه الدخول والخروج من الجزائر عدا الكتاب، كما لو أنه سلعة مُحرمة، محظورة. كما لو أن الكتاب هو السبب في أزماتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وسبب في خسارات منتخب الكرة، بالتالي فقد فُرض عليه حصار. الكتاب سلعة تنطوي على المخاطر كلها، هكذا يفكرون، وقصد السماح له بالدخول أو الخروج فلا بد من شيئين، كل واحد منهما أكثر تعقيداً من الآخر: لا بد من الحصول على تراخيص من أكثر من وزارة، والمرور من أكثر من مكتب، مع مجابهة كتيبة من الموظفين، كل واحد منهم يحكم بمزاجه، أو يجب انتظار المعرض الدولي للكتاب من أجل الحصول على ترخيص استثنائي. ماذا لو أن معرض الكتاب تأجل؟ كما حصل قبل عام. أو تأخر عن موعده؟ هذا يعني أن الكتاب سوف يظل، مرة أخرى، في دكة الانتظار، ولا بأس أن لا يقرأ الجزائري، فبوسعه البحث عما يرغب فيه في مواقع القرصنة، هكذا في ظل وضع متشابك نمنع وصول الكتاب ونشجع على القرصنة وسرقة الحقوق.
وضع غريب تعرفه الجزائر في علاقتها غير الصحية مع الكتاب، في تعطيل حركته في الاتجاهين، دخولاً وخروجاً، مع ذلك فلا أحد يحتج! كما لو أن الجميع في تصالح مع هذه الحالة المُعادية للكتاب. لا بد أن أكبر مستفيد منها هم بعض الناشرين المحليين الطارئين، الذين ظهروا فجأة في السنين الأخيرة، الذين استفادوا من شغور السوق فأغرقوها بكتب السحر والدجل وكتب من نوعية «كيف تصير غنياً في ستة أيام». ويجد الكاتب نفسه مخيرا بين خيارين: إما أن ينشر عمله في دار نشر أجنبية، فلا يصل كتابه إلى الداخل كما لو أنهم يعاقبونه على فعلته أو ينشر في الداخل، في دور نشر تتبارى في هضم الحقوق المادية والمعنوية للمؤلف، الذي لا قانون له من أجل حمايته سوى على الورق.
من الداخل إلى الخارج
أسمع من حين لآخر مسؤولين في الدولة يتحدثون عن فتوحاتهم، أهمها تنويع الصادرات خارج المحروقات. بحكم أن الجزائر تعيش مما تصدره من بترول وغاز، فكلما استطاعت تصدير شحنات تمر أو حديد أو صناعات صغيرة، إلى الهند أو دول الساحل، تحول ذلك الأمر إلى حدث وطني، ولا بد من أن يرد كلام عنه في التلفزيون، بل يحصل أن تنتقل الكاميرا إلى ميناء أو مطار قصد تصوير العملية، كما لو أننا اكتشفنا بئر بترول جديدة في شمال البلاد. من جهتهم يشعر الناس بالاطمئنان إزاء هذه الأخبار، يساورهم أن البلد في طريقه نحو الأفضل، وأن لا خوف من نفاد البترول بحكم أن لدينا بديلا، مع أن العائد المادي من هذه الصادرات خارج المحروقات، إنما عائد بسيط نظير ما تحتاج إليه بلاد مثل الجزائر.
ما يهمنا في هذه الحالة أن الأرقام متوافرة، يكفي أن نقترب من مصالح الجمارك أو مصالح وزارة التجارة ونعرف ماذا صدرنا إلى الخارج من منتجات أو من حصاد أو ثمار، بالتفصيل الممل. لكن لم يسبق أن سمعنا خبراً واحداً عن تصدير الكتاب إلى الخارج! لأن الكتاب ليس سلعة؟ نعلم أن تصدير الكتاب في دول مثل فرنسا أو بريطانيا أو أمريكا يساوي اقتصادات دول نامية، بينما عندنا فالكتاب سلعة معدومة، لا وجود لها في أرض الواقع، بل لم يحصل أن فكرنا ولو مرة على سبيل الصدفة في تصدير كتب، على الرغم مما تتوافر عليه البلاد من مطابع ومن واردات ورق، لكنها مطابع حصرت عملها في تلبية حاجيات السوق الداخلية لا أكثر، في طباعة جرائد ومنشورات وكتب مدرسية وأخرى موجهة للقراءة السريعة.
من الخارج إلى الداخل
حين كانت الجزائر تمارس ديمقراطيتها الثقافية، على الرغم من حداثة نشأتها، وعدم توفرها سوى على مؤسسة واحدة للنشر، كان يوجد مكتب مهمته واحدة ومحددة: استيراد كل الكتب التي أصدرها جزائريون في الخارج أو أجانب كتبوا عن الجزائر. كانت البواخر تصل محملة بالكتب والمكتبات، بين سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لا تخلو من اسم جزائري واحد، مهما كان البلد الذي نشر فيه كتابه. كانت البلاد أرضاً مفتوحة على التنافس الثقافي، وعلى صناعة القارئ النوعي، كل ذلك كان في الماضي. نتحدث عنه الآن مثل شيخ يتحدث عن سنوات شبابه. لأن الطوفان السياسي مسح كل شيء، وفصل راهن البلاد عن ماضيها. ولم يعد الأمر سهلاً في السنين الأخيرة، فمن أجل استيراد كتاب وإن كان لكاتب جزائري فالأمر يحتاج إلى نفس طويل، إلى ماراثون بين المكاتب والموظفين، إلى أكثر من ترخيص من أكثر من وزارة، وإلى انتظار قد يُقارب انتظار غودو، من أجل فقط التوصل إلى كتاب. يبدو الأمر في غاية العبثية، إلى هذا الحد بات الكتاب سلعة محظورة في الجزائر؟ أما أن هذه العراقيل ليست أكثر من مرادف آخر للرقابة؟ بدل أن نمنع كتاباً بشكل مباشر نطوقه بجملة من الإجراءات الإدارية المتعبة، التي تفضي في نهاية الأمر إلى عدم وصوله، ويظل القارئ في انتظار مرهق لمعرض الكتاب الدولي الذي ينتظم مرة واحدة في السنة؟ في بلدان أخرى مجاورة ينتظم أكثر من معرض واحد يحمل صبغة الدولي، بينما في الجزائر هذا البلد بحجم قارة، الأكبر مساحة عربياً وافريقيا ينتظم معرض واحد يسمح فيه بوصول إصدارات الناشرين الأجانب. هذا الوضع يؤدي إلى تراجع الوعي بالقراءة، إلى ابتكار قارئ كسول، قارئ يجد نفسه ضحية سوق مغلقة، تحتكره بعض الدور المحلية، في غالبيتها تجارية، تروج كتباً عن الجن وعن الغيبيات، وتبيع نسخها بأعداد كبيرة مستفيدة من غياب المنافسة. إذا استمر الحال كما هو عليه، فلن نستغرب أن تصير الجزائر بلداً مستورداً للكتاب مثلما دأبت على استيراد لاعبي كرة قدم من أوروبا.
سعيد خطيبي
تعليقات الزوار
لا تعليقات