سيحتفل الجزائريون بيوم الطالب المصادف للتاسع عشر من هذا الشهر مايو/أيار وهم يركزون في الغالب على طلبة الجامعات، الذين أعلنوا إضرابا عاما عن الدراسة في مثل هذا الشهر من سنة 56، بتوجيه من جبهة التحرير وتحت التسيير المباشر لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين. ذكرى يتم الاحتفال بها كل سنة، من دون الالتفات إلى دور الطلبة الثانويين، الذين كانوا أكثر عددا من الطلبة الجامعيين، الذين لم يتجاوز عددهم 500 طالب في جامعة الجزائر الوحيدة في تلك الفترة ـ مقابل عدد أكبر في الجامعات الفرنسية، وأقل بكثير في الجامعات العربية.
إضراب دعا إليه اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين، بعد أقل من سنتين من اندلاع ثورة التحرير، يعبر بكل وضوح عن جذرية الفكرة السياسية الوطنية، كما بينت ذلك الدعوة إلى اضراب ثمانية أيام، الذي أعلنته جبهة التحرير في سنة 57 بالنسبة للتجار، والذي تزامن مع معركة الجزائر.
إضرابان بينا بشكل جلي امتلاك ثورة التحرير لقاعدة حضرية جديدة، بين أبناء الفئات الوسطى المالكة والمثقفة، زيادة على عمقها الشعبي الريفي المعروف، توفرت مع الوقت بعض المعطيات عن هذا الإضراب الطلابي الذي احترمه الطلبة – بمن فيهم الطالبات – على العموم بأشكال مختلفة، وصلت عند البعض إلى الصعود مباشرة إلى الجبل، كما حصل مع أمين خان الذي ترأس الجمعية العامة التي تم الإعلان فيها عن قرار مقاطعة الدروس، الذي كان قرارا جذريا مس بشكل مباشر مصالح الطلبة، فقد كان مطلوبا من الطالب أن يتوقف عن الدراسة خلال فترة الامتحانات في وقت قد يكون على أبواب التخرج، أو في بداية مشواره التعليمي، الذي انتظره طويلا، ما جعل بعضهم يرفض الانصياع إلى أمر الإضراب، كما حصل مع الطالب محمد أركون، الذي كان على أبواب التخرج من جامعة السوربون وصديقه علي مراد. موقف يفسر لاحقا – جزئيا على الأقل – ما تعرض له المفكران من تهميش طالهما في الجزائر المستقلة التي بقوا بعيدين عنها، هما اللذان فضلا الاستقرار المهني والعائلي نهائيا في فرنسا بعد الاستقلال، ليزيد رمزيا دفنهما خارج الجزائر، عمقا أكبر لغربتيهما. ليبقى من المهم التذكير أن ما تم إغفاله في الدراسات التي اهتمت بالتاريخ الفكري والسياسي للجزائر هو مواقف وأدوار طلبة وطالبات الثانويات، الأكثر عددا والأصغر سنا والأكثر انتشارا على المستوى الوطني، من خلال المنظمة الخاصة بهم – جمعية الطلبة الشباب المسلمين الجزائريين. هم الذين التحقوا بقوة بصفوف جيش التحرير لتدعيم الهياكل الصحية والإدارية داخل الولايات، بعد أن غادروا ثانوياتهم في المدن الكبرى كالعاصمة وهران وقسنطينة تلمسان وسطيف، التي اشتهرت فيها ثانوية «البرتيني» محمد القيرواني حاليا، التي كونت خزانا فعليا للحركة الطلابية الوطنية بالكم الكبير من الطلبة، الذين التحقوا بصفوف الحركة الطلابية وثورة التحرير. ثانويات تميزت بقرب جغرافي من المجتمع الجزائري، سمح لعدد أكبر من الطلبة والطلبات من الاستفادة من تعليمها، عكس الجامعة الوحيدة التي كانت متوفرة للجزائريين في تلك الفترة، في بلد تميز بشح العرض التربوي الذي قدمه النظام الاستعماري للمجتمع الجزائري، كان يتطلب السفر بعيدا – في الخارج في بعض الأحيان بالنسبة للعائلات الميسورة – عن العائلة للاستفادة من هذه الثانويات التي كانت توفر لطلبتها النظام الداخلي، كان يفترض المبيت والأكل في مرقد الثانوية، بداية من مرحلة السادسة ابتدائي، في بعض الأحيان، ما حول هذه الثانويات إلى مصانع فعلية لصهر الفكرة الوطنية عند هؤلاء الشباب، الذين تعرفوا على أقرانهم من شباب مختلف المناطق. تعارف كوّن الأرضية التي اعتمدت عليها التنظيمات الطلابية والسياسية لاحقا للفكرة الوطنية الجزائرية وثورة التحرير، وهي تتجاوز المنطق الجهوي. كما حصل بشكل لافت مع تجربة تكوين وزارة الاتصال والتسليح ـ المخابرات العسكرية، التي اعتمدت في الأساس على هؤلاء الطلبة الثانويين من أبناء الجالية المهاجرة في المغرب، ومن التحق بهم بعد ذلك من طلبة الجامعات الفرنسية والولايات من الداخل، وهو الشيء نفسه الذي حصل عند تكوين جيش الحدود، ناهيك عن مصالح الحكومة المؤقتة الأخرى، كما كانت الحال الدبلوماسية والكثير من مؤسسات الدولة الوطنية التي كانت تشكو من ضعف التأطير الناتج عن التجنيد الشعبي الذي أنجزه جيش التحرير في بداية انطلاق الثورة، اعتمادا على القوى الريفية الفقيرة والأمية، ما منح قوة كبيرة لهذه الفئة الشابة والمتعلمة التي تجاوزت سنها الصغيرة وهي تكبر بعيدا عن عائلاتها.
وضع حوّل عملية الاستحواذ على هؤلاء الطلبة إلى حلبة صراع كبرى بين مراكز القوى داخل مؤسسات الثورة تمهيدا للاستقلال، كما كان الحال مع بومدين، الذي لم ينتظر الإعلان عن الإضراب للالتحاق بصفوف الثورة بعد التوقف عن دراسته كطالب حر في القاهرة، فقد عمل المستحيل من أجل الاستحواذ على العدد الأكبر من هؤلاء الطلبة الذين كانوا من جيله نفسه تقريبا، في انتظار حسم الصراع على السلطة لصالحه، بعد الاستقلال. كما ظهر في تشكيلة مجلس الثورة، الذي اعتمدت نواته الصلبة على طلبة من مختلف مناطق البلاد، تعبر عنه وجوه الصف الأول على غرار بوتفليقة – تلمسان وشريف بلقاسم – شاوي حركاتي، من أبناء العائلات المهاجرة إلى المغرب وأحمد مدغري – سعيدة. صراع امتد إلى حكومات بومدين التي تم الاعتماد في تشكيلها جزئيا على قيادات الاتحاد الوطني للطلبة المسلمين الجزائريين، الذين مثلهم لديه عبد السلام بلعيد الذي دخل في صراع خفي مع بومدين، قبل وبعد الاستقلال حول تمثيل هذه الفئة المثقفة التي كان بلعيد عبد السلام يريد احتكارها لنفسه حتى وهو يُشغلها من الباطن لصالح بومدين، ويفاوض باسمها. بومدين الذي كان قد نجح في وقت سابق في كسب ود عناصر «المالق « لصالحه على حساب معلمهم الأول عبد الحفيظ بوصوف، الذي استطاع بومدين إبعاده بعد الاستقلال مباشرة مع آخرين عن الواجهة، هو الذي كان عرّابه الأول عند انطلاق تجربته في الولاية الخامسة التي قادها بوصوف بيد من حديد، اعتمادا على هؤلاء الطلبة الشباب الذين انطلقوا في دراستهم أثناء الثورة ولم ينهوها إلا بعد الاستقلال وهم رجال وهم على رأس الدولة.
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لا تعليقات