أشرت في مقال “الإنسانية عيش في مفترق طرق خطير، و العدو الاخطر السلبية و الصمت..” إلى أننا نعيش اليوم -إن على المستوى الفردي و الجماعي- في قلب معركة بين الحق و الباطل، العدل و الجور، التحرر و الاستعباد، ليس فقط في عالمنا العربي او الإسلامي و إنما هي معركة كونية، و معركة الإنسانية ككل التي تعيش في مفترق طرق ، و تعيش حالة من الحيرة و “غبش” الرؤية، و أي طريق ينبغي سلكه..و الظروف الحالية و السياسات العامة المتبعة لن تقود إلا إلى المزيد من التدهور و النزول إلى القاع، و الأمل يظل – بنظري- في حدوث معجزة ربانية تخرج الشعوب العربية من سباتها العميق، و تخرجها من حالة التيه إلى التكتل و توحيد الجهود و تجاوز الخلافات الجزئية و التركيز على المشترك، و نقطة الإلتقاء التي لا يختلف عليها إثنين هو فساد الأنظمة الحاكمة و غياب الحكم الرشيد و إنعدام أي رؤية تنموية أو سياسة إصلاحية ذات جدوى، و التركيز على الأقوال لا الأفعال..
و كان في نيتي إستكمال هذا النقاش ، لكن شاءت إرادة المولى ان تتغير بوصلة إهتمامي و تتجه نحو العلاقات الجزائرية المغربية ، و متلازمة الخلاف و الشقاق بين البلدين، و التي يصعب تفسيرها بالمنطقة العلمي و العقلي…فمبررات الخلاف و الشقاق واهية جدا ، و دوافع التفاهم و المصالحة و التعاون و التكامل قوية جدا..بل محاولة أعمالها و تجاهلها يدفعنا إلى اعتبار ان حالة الشقاق تخدم أجندة النظامين في كلا البلدين او على الاقل تخدم أجندة و مصالح قوى دولية اخرى ترى أن نبذ الخلاف بين البلدين يهدد مصالح حيوية موروثة و محمية منذ مرحلة ما بعد الاستقلال…
و قد حاولت تفادي تصريحات الرئيس تبون لجريدة “الفيغارو الفرنسية”، حتى لا نصب مزيدا من الزيت على النار ، فنحن في حاجة إلى درجة كبيرة من التغافل لتجاوز بعض التصريحات و المواقف التي لا يمكن وصفها إلا أنها مجانبة للصواب و المنطق السليم … ، لكم ما دفعني للتركيز على العلاقات الجزائرية – المغربية، حدث على درجة من الغرابة ، أرى من المناسب سرده على القراء الكرام و إخضاعه للدراسة و التحليل بهدف فتح نقاش اكبر و أعمق غايته البحث عن جذور الأزمة و محاولة إيجاد مخرج ..
فاليوم 08-01-2023 ، و بينما انا في جولتي المسائية استوقفني أحد الأشخاص طالبا مني المساعدة ، و من خلال لهجته تبين لي انه من الجزائر ، و قد اكد لي انه من الجزائر دخل للمغرب قبل نحو سنتين ونيف بغرض السياحة ، و قد تقطعت به السبل مع تفشي الجائحة و غلق الحدود بين البلدين بحسب ما صرح ، و ما اثارني هو سخطه من موقف بعض المغاربة الذين طلب مساعدتهم، و الواقع ان كلامه أثار انتباهي لأنه يعبر عن حالة صدام و شقاق خفي و لكنه خلاف مصطنع، فهو ذاته عبر عن موقف ملتبس من المغاربة فالبعض قدم له يد المساعدة و البعض الاخر اعرض عن ذلك ..و هنا لابد لي من فتح قوس و الإشارة إلى ان استحضاري لقصة هذا الرجل الذي لا أعلم حقا هل هو جزائري أو غير ذلك ، لأني تعلمت في بحر الصحافة التحقق مما أكتبه، و الفرصة لا تسمح لي بالتحقق من هويته فلا أملك هذا الحق قانونيا و أخلاقيا، فما دام أنه عابر سبيل ، و طلب المساعدة فمن الأخلاق مساعدته أو الاعتذار له، بغض النظر عن هويته..
لكن ان يكون طالب المساعدة من الشقيقة الجزائر فإني شخصيا لن أتردد في تقديم المساعدة في حدود الممكن، و ذلك لأني احترم هذا الشعب و أعتبر الجزائر بلدي الثاني، و منبع هذا الحب ان جدي رحمه الله كان يحدثني في طفولتي عن علاقاته مع الجزائريين ، فبحكم أنه “فلاح” و ” مقاوم” ، فقد كان جزء من محصوله من الخضروات و الفواكه الموسمية يشتريه بشكل دوري تجار من الشقيقة الجزائر ، و قد كانت له علاقات قوية معهم يستضيفهم في بيته و يحضرون له منتجات تقليدية من الجزائر…
و قبل ايام اخبرني طاقم تحرير برنامج “إقتصاد×سياسة” أن نحو نصف المتابعين من الجارة الجزائر ، و لم انتبه في حينه إلى هذه الإحصائيات التي اعتبرتها عادية، و لكن حتى مقالاتي التي انشرها براي اليوم اللندنية، تسجل تفاعلا كبيرا من قبل القراء من الشقيقة الجزائر ..
والواقع اننا منذ لحظة الاتفاق على إطلاق برنامج تلفزيوني اتشرف بتقديمه للجمهور المغاربي والعربي، فقد قررت بمعية رئيس التحرير وفريق العمل، على جعل الهم المغاربي محور اساسي ضمن خارطة البرنامج ، و أن الجمهور الذي يتوجه له رسالتنا الإعلامية جمهور مغاربي بدرجة اولى، وقد قرننا إحداث برنامج إضافي ” قامات و هامات مغاربية” غايته التعريف بفكر علماء ومفكرين وسياسيين واقتصاديين مغاربيين..
ومن يتابع كتاباتي و بخاصة مؤلف ” النموذج التنموي المنشود” بأجزاءه الثلاث، ” ١) النموذج التنموي المنشود بين السياسة و الاقتصاد ” و ” ٢) النموذج التنموي المنشود بين مطرقة صندوق النقد الدولي و سندان التطبيع مع إسرائيل ” و ” ٣) النموذج التنموي المنشود بين مطرقة الأمركة و سندان الأصينة” سيجد حرصا شديدا من الكاتب على استحضار العلاقات المغاربية، والتأكيد على دور التكتل و تصفير الأزمات مع بلدان الجوار و بخاصة الجزائر ، في تجاوز الأزمات الداخلية للمغرب و لباقي البلدان المغاربية..
وعندما دخلت لحقل الإعلام، و خاصة عندما اطلقنا قناة أطلس الفضائية فتحنا حوارا مع السلطات الجزائرية لفتح مكتب للقناة بالجزائر العاصمة و كان يدور في خلدنا فتح مكاتب مماثلة في تونس و طرابلس و نواكشوط..بل حتى خريطة برامجنا و ” لوغو ” القناة عبر عن الهوية المغاربية، فقد تجاوزنا المنطق المحلي الضيق وحاولنا تجسيد حلم الوحدة إعلاميا و خلق مزاج عام دافع باتجاه التكتل و التكامل الاقتصادي و التجاري بين البلدان المغاربية.. لكن علينا الاقرار ان مشاريع الإعلام البناء و الهادف، والذي يتطلع لجمع شمل الامة والدفاع عن قضاياها العادلة يجد امامه جملة عراقيل و مصاعب يصعب تفسيرها بشكل علمي و موضوعي ، و يتم إقبار هذه المشاريع بالخنق الاقتصادي أو البيروقراطي أو القانوني أو التحريري، لكن المشاريع الإعلامية التي تنفذ اجندات التفتيت و تأجيج نار الخصومة و الفتنة، تجد داعمين و ممولين و مستشهرين و متابعين بالملايين ، و تسهيلات من جهات شتى …
و تبعا لذلك، لن نكل أو نمل من أجل العمل على ردم هوة الخلاف و الشقاق بين “الاخوة الأشقاء” المغرب والجزائر، ولأجل ذلك سأحاول تخصيص سلسلة من المقالات لشرح مخاطر و مثالب هذا الشقاق الذي لا رابح فيه، و سنحاول أن نكون من ضمن عناصر الوحدة و التكامل بين البلدان المغاربية ، و معولا من معاول هدم الفرقة والخلاف و الخصام، وحتى لا نبقى في سياق الشعارات والأمنيات و حتى نتجاوز منطق الاقوال و العواطف ، فلابد من توسيع دائرة الوعي لدى الشعبين والتنبيه إلى ان شعار ” خاوة- خاوة” ينبغي ان يتحول من المواقع إلى الواقع، فمصلحة الشعبين تقتضي تجاوز الخلافات الشكلية، ومصالح الشعبين تقتضي فتح الحدود بين البلدين و تشبيك العلاقات الاقتصادية و التجارية و الإنسانية…
لابد من قول كلمة ” كفى” و”باركا” فمن مصلحة الشعب الجزائري تصفير المشاكل مع المغرب و النظر إليه على انه بلد شقيق و جار قريب، كما انه من مصلحة المغرب تجاوز حالة الخلاف مع الجزائر، و اعتقد ان غالبية الشعب المغربي تنظر للشعب الجزائري نفس النظرة التي يؤمن بها الكاتب، حان الوقت لفتح قنوات اتصال مباشرة بين البلدين ، و فتح حوار جاد و حقيقي بعيدا عن ازدواجية الخطاب و قصف البيانات…
فما يحدث هو خدمة لقوى دولية مستفيدة من حالة الشقاق بين “الاخوة الأعداء ” وأن ثمن هذه العداوة المصطنعة يدفعها الشعبين الشقيقين ، ويتم دفعها من التنمية و هدر الموارد العمومية في دعم التسلح و دعم لا جدوى منه لحركات الانفصال وشراء الولاءات …
حان الوقت لفض الاشتباك و الوصول إلى آلية لتطبيع العلاقات بين البلدين والضغط على الأنظمة لتقديم تنازلات من أجل فتح الحدود وإعادة العلاقات بين الجارين لسابق عهدها اي قبل 1994 .. ولما لا الى ما قبل 1963.. و لابد للشعوب ان تخرج من غيبوبتها و سلبيتها فلا المغرب عدو للجزائر و لا الجزائر عدو للمغرب…فالشقاق والعداء مصطنع و ينبغي على الشعوب الخروج من هذه الحلقة المفرغة و الضغط باتجاه تصفير المشاكل العالقة بين البلدين في اقرب الاوقات…و لنا لقاء في المقال الموالي إن شاء الله تعالى ..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون…
إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة…
دكتور طارق ليساوي
تعليقات الزوار
لا تعليقات