أخبار عاجلة

عشوائيات الحياة الدينية في الجزائر

عندما تفقد السياسة بوصلتها في القيادة والحكم، وتخفق في إرساء الديمقراطية كأفضل سبيل إلى سلوك العقل، وتداول ثقافة العلم والمدنية، تسود العشوائيات وترتقي إلى نظام محكم له أصحابه من المضاربين والانتهازيين. حياتنا المعاصرة هي حياة مؤسسات ونظم وبرامج قائمة على ما يمكن تصوره وتجسيده، بما في ذلك حياتنا الدينية. وخلاف ذلك، ضاعت حياتنا الدينية في زحمة العشوائيات، التي شهدتها الجزائر ولا تزال في سياق وسيرورة البناء العشوائي للمدن والتخطيط الفاسد لها، وانعكس كل ذلك على استفحال ظاهرة البحث عن المدد من خارج المدن، والاستغاثة بالسماء، والاستعانة بالقبور والأموات.
في زمان ومكان المؤسسات العمومية، يجب البحث عن أسباب الضياع الديني والأخلاقي، داخل البلد، لا في خارجه ولا في سمائه، ولا حتى داخل الأضرحة والمراقد والزوايا، وحلقات الذكر. ولعلّ الحملة الأخيرة لتطهير المقابر في الجزائر، ظاهرة تنم عن ذهنية مبتذلة، ترافق النظام العشوائي والثقافة الخائبة، التي أفلست في مواجهة حقائق العلم وثقافة المدنية والإصلاح المؤسساتي. وعليه، فإن الانخراط في حملة تطهير المقابر والأضرحة والزوايا من أدوات ما يعتقد أنه سحر، ويتوهم بأنه علاج ليصرف به ذهن «المواطن» عن الحق والحقيقة والواقع والقائم في الدنيا، وليس الآخرة.
في دولة مستقلة، قامت على حقيقة الوطن وحقيقة الإسلام، يجب النظر إلى قضاياها بإحالتها الى المجتمع والدولة، ولا يمكن إيعازها لا إلى خلف، أو قبل، أو فوق ولا تحت الأرض، لأن كل محاولة من هذا القبيل، هي اعتراف صارخ بأن النظام العشوائي هو الذي يسود، وأن تراجع الدين على هذا النحو هو أيضا إخفاق فادح للحركة الإصلاحية والوطنية، التي تحملت مشروع استقلال الدولة الجزائرية، أي المشروع الذي ينطوي على شرعية دولة مؤسسات، بما في ذلك مؤسسة الدين، التي تعد أحد الاعتبارات المهمة في برامج وخطط التنمية، أي دين المؤسسات وليس عشوائيات الزوايا وشيوخها «الميامين».

«غاية هذه الجمعية (جمعية الزوايا والطرق)، هي أولا المحافظة على نفوذ الزوايا والطرق، وعلى شهرتها وسمعتها ومكانتها»، هذا ما جاء في مستهل القانون السياسي لجمعية الزوايا والطرق في الجزائر، ثلاثينيات القرن الماضي، أي زمن الاحتلال الفرنسي. وعلينا فقط عند التحليل، أن ندرك هذه الغاية مع غاية الاستعمار في البقاء في الجزائر، التوافق والتناسب والتجاوب موجود ومضمون على الأصعدة كافة ومن كل الجوانب. التذكير بغاية الزوايا والطرق في الجزائر، ليس على خلفية المقارنة التاريخية، بل على أساس استكمال المهمة وهي إنجاز كبير حققه شيوخ الزوايا في عصر غير عصرهم، ونقصد تعيين شيخ من شيوخ الزوايا والطرق في أرفع منصب ديني، وعلى أعظم صرح تاريخي في الجزائر، ونقصد جامع الجزائر «ثالث أكبر مسجد في العالم الذي يبرز بفراغه وغيابه وخواء أثره في هذه الأرض، الأمر الذي دعا الجماهير إلى اللواذ بالسماء والتعلق بخطابات السحر وأدعية روادها ومضاربيها، كأفضل طريق إلى مضاعفة أجور الدنيا والآخرة معاً. عندما يعين شيخ طريقة في أعظم منصب وبمكانة وزير رمزي، فلتقزيم وظيفة الصرح وخدماته في نطاق الداخل كما الخارج، ومن ثم حرمان تاريخ الاستقلال من مواصلة الإصلاح والتجديد، الذي يقتضيه الدين في حد ذاته كخطاب إلهي لكل البشر، وليس لشيوخ الزوايا وأنظمتها الطرقية، وليس كسند لإضفاء الشرعية على تصرفات الحكام، وتأمين بروتوكولات شكلية لا تلامس الجوهر، والحقيقة الاجتماعية في كل معانيها وتعبيراتها. فمن طبيعة الطرق وشيوخها ورجالها أن تثير القبر والضريح والموت والجثة والنوم الأبدي وكل الثقافة التي تستحضر الآخرة ومشاهدها، ليس كتأمل وتفكير، بل كفرار من جحيم الدنيا وويلاتها، وفقدان الأمل والسعي إلى تعويضه بالسحر والشعوذة والشطحات البلهاء ولغة الطلاسم التي تكشف عن منسوب الجهل والأمية المدَنِية التي وصلت إليها الأمة.
شيخ الزاوية في تاريخ الجزائر يحمل معه تاريخه الذي كان، ولا يمكن أن يكون لاحقا على أي نحو، ولا على صفة من الصفات، لأنه ينتمي إلى التاريخ الذي انقضى مع نموذج كيانه، ولأنه بنية منتهية، وليس بنية منتظرة على ما هي الحركة الإصلاحية الجزائرية، التي تخطت النظم الطرقية مع النظام الاستعماري، وتتطلع دائما إلى التغيير والتحسين والاجتهاد، داخل مؤسسات الدولة وليس خارجها، وليس بتزكية وتبرير الفعل الخاص والشخصي والذاتي، بل عقلنة التصرف العمومي وإضفاء الشرعية المقبولة على ما يمكن أن يساعد على الألفة واللطف والراحة والأمل في المقبل ورضا الله بالأفعال، وليس بالأقوال والتَّماتم والأدعية الشكلية.
نظم الزوايا والطرق لها بنيات وهياكل لا تناسب الدولة، لأنها قائمة على الشيخ وأفراده، وعلى المنطقة وقبائلها وعروشها، وعلى المذهب وأتباعه، وكلها مظاهر لا تتأطر داخل الدولة، التي تخاطب كل أفراد المجتمع كمواطنين وليس كأتباع طريقة من الطرق، أو شيخ من شيوخ النزعة المرابطية المتَكَلّسة التي لفظها التاريخ، ولم تعد من متواليات العصور الحديثة والمعاصرة، وأي وجود لها فهو عنوان كبير على ارتفاع رهيب في منسوب التخلف والنكوص، وتعبير عن حالة ضياع استقلال الأمة. وهكذا، فعندما يصل الأمر الى تنظيم حملة لتطهير القبور من أوثان السحر، أو ما يزعم أنه سحر وتخليص الزوايا من أدران الشرك فإن المسألة كلها مسألة مجتمع يعاني التخلف، ويجب أن يقوم بتطهير نفسه هو، وتصفية وعيه من الزيف، الذي صار يلازمه، بسبب غياب الدين كمؤسسة حديثة ومعاصرة مثلها مثل بقية المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية والدولية، على أساس أن الجزائر حازت الاستقلال الوطني بجهد الحركة الإصلاحية والحركة الوطنية والاعتراف الدولي.
وبناءً على ما تقدم، فإن التَّخلف الذي يجب أن يحدد مسألة تراجع الوضع الديني في الجزائر، يجب أن يعزى إلى غياب الوعي بالقدر الكافي، التعيينات «العشوائية» على مستوى المؤسسات هو المسؤول الأول والأخير على تدهور الأوضاع الاجتماعية، وزيادة منسوب الفقر الذهني والشعوذة الطائشة والثرثرة في موضوعات الدين والتقدم، والدين والعلم، والدين في المدينة. أجل، عدم القدرة على الربط بين التعيين العشوائي وصلته بالنكوص والتخلف، هو أيضا المسؤول عن عدم التنبه إلى حقيقة السبب والعامل الحاسم في عودة التاريخ المنقضي والتراث المتهالك والماضي المنقرض. في المطاف الأخير والتحليل النهائي، فإن محاولة توليف وتنسيق البالي بالحديث والمعاصرة محاولة يائسة، آخر نتائجها ومضاعفاتها هو حملة البحث في القبور عن الأموات وسلطتهم على الأحياء.

نور الدين ثنيو

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات