أخذت محاولة انتحار الناشط الجزائري فوزي زقوط حرقًا أمام وزارة العدل أبعادًا غير متوقعة، بعد أن كيفت النيابة العامة الواقعة بوصفها جناية وعملاً تخريبيًا، واتهمت المتورطين فيها بالتواصل مع جهات في الخارج، ما أسفر عن حبس أربعة أشخاص على ذمة التحقيق.
وفي بيان لها، ذكرت محكمة سيدي امحمد بالعاصمة الجزائر، أن “تعميق التحقيق من طرف الضبطية القضائية حول الواقعة وملابساتها، أسفر عن الكشف عن مجموعة إجرامية منظمة عملت على التخطيط المسبق لارتكاب أفعال تخريبية، من خلال توزيع الأدوار في ما بينها، وذلك عبر تصوير المشهد ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي، بغرض المساس بالنظام العام والسير الحسن للمؤسسات”.
وأبرز البيان أن التحقيق الابتدائي أسفر عن “توقيف أفراد هذه المجموعة المكونة من خمسة أشخاص، وكشف عن وجود تواصل بين الشخص الذي قام بتصوير فيديو محاولة الانتحار وأشخاص متواجدين في الخارج، وكان بحوزته عدة حسابات بنكية. كما ثبت أن هذا الشخص أقام لمدة عامين في دولة أجنبية، وتلقى تحويلات مالية في حسابه البريدي من بعض الأشخاص”.
ووفق المصدر ذاته، فقد وُجهت للمتهمين، بتاريخ 10 حزيران/جوان 2025، تهمٌ تتعلق بجناية القيام بأفعال تخريبية من خلال عرقلة سير المؤسسات العمومية، وجنح تعريض حياة الغير وسلامته الجسدية للخطر، والنشر والترويج عمدًا لأخبار كاذبة ومغرضة بين الجمهور من شأنها الإخلال بالنظام العام، وسوء استغلال الوظيفة. وقد تقرر، إثر ذلك، إيداع أربعة متهمين رهن الحبس المؤقت، بينما وُضع متهم واحد تحت نظام الرقابة القضائية في القضية ذاتها.
وتعود الواقعة إلى بداية شهر حزيران/جوان الجاري، حيث ظهر الناشط الجمعوي في مشهد صادم نُشر عبر فيديو على فيسبوك، وهو يضرم النار في جسده أمام وزارة العدل في منطقة الأبيار بالعاصمة، تنديدًا بما وصفه بالظلم الذي تعرض له على يد قاضٍ في محكمة فرندة شمال غرب البلاد.
وفي الفيديو، بدا الشاب وهو يسير في زقاق قريب من مبنى الوزارة، يرش نفسه بالبنزين ويتحدث بهدوء إلى الكاميرا عن الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ هذا القرار اليائس. حيث قال إن قاضيًا بمحكمة فرندة في ولاية تيارت ظل، منذ خمس سنوات، يلاحقه بتهم ملفقة ويهينه علنًا، مضيفًا: “أنا رجل، وكرامتي فوق كل شيء… لا أتحمل الإهانة”.
ودون تردد، واصل زقوط السير مقتربًا من مدخل الوزارة، وتبادل كلمات قصيرة مع أحد أعوان الشرطة، ثم أخرج ولاعة وأشعل النار في جسده، ليتحول في ثوانٍ إلى كرة لهب أمام أعين المارة ورجال الأمن، بينما واصل مرافقه التصوير من بعيد، قبل أن ينقطع البث. ولحسن الحظ، تدخل أعوان الأمن التابعون للوزارة بسرعة، واستعملوا مطفأة حريق لإخماد النيران، وفقًا لبعض الشهود، ليتم نقله مباشرة إلى مستشفى الحروق الكبرى في الضاحية الغربية للجزائر العاصمة، حيث يتلقى العلاج هناك.
واللافت أنه في ليلة الواقعة، كتب الشاب سلسلة منشورات تحذيرية على فيسبوك، أكد فيها عزمه “حرق نفسه أمام قصر المرادية”، موجهاً نداءً عاجلاً إلى الرئيس عبد المجيد تبون، قائلاً: “نموت بكرامة… على الساعة الثامنة أشعل روحي بالبنزين عند قصر المرادية… القاضي في محكمة فرندة منذ خمس سنوات يلفق لي قضايا لا أساس لها… هددني بالسجن عشر سنوات فقط لأني رجل وأحب بلادي وأقوم بالخير”.
وأضاف في منشور آخر: “هذا ليس ضعفًا، لكن خمس سنوات من التهم الكاذبة كفيلة بتحطيم أي إنسان… اليوم ستكون آخر كلماتي إنْ لم يصل صوتي إلى الرئيس تبون”.
ووفق ما أوردته صفحات محلية، يُعرف فوزي زقوط بنشاطه في المجال التطوعي، حيث يشارك بانتظام في حملات لمساعدة المحتاجين، ويشتهر بتدخلاته من أجل إصلاح التسيير المحلي في ولايته. لكنه واجه في السنوات الأخيرة عدة متابعات قضائية ظلَّ يردد أنها ناتجة عن “تصفية حسابات” من طرف جهات أرادت تحطيمه، على حد قوله.
وأمام هول الحادثة وتضارب الروايات حول معاناة هذا الشاب، أصدر وكيل الجمهورية بمحكمة بئر مراد رايس في العاصمة، بيانًا في اليوم نفسه، ذكر فيه أن فوزي زقوط محل متابعة أمام محكمة الجنح بفرندة في قضيتين مؤجلتين، وهو في حالة إفراج مع خضوعه لالتزامات الرقابة القضائية. وتخص القضية الأولى جنحة ممارسة نشاط جمعوي بدون اعتماد، وانتحال الصفة، وجمع التبرعات دون ترخيص، فيما تتعلق الثانية بجنحة التحريض على التجمهر غير المسلح وغلق الطريق العمومي المؤدي إلى عرقلة حركة المرور.
وفي سياق ردود الفعل الواسعة التي أعقبت الحادثة، عبّر نشطاء وكتّاب وسياسيون عن تأثرهم العميق، فيما تفاعل الآلاف على مواقع التواصل الاجتماعي بين متضامن مع الشاب ومندهش من خطوته. وتساءل البعض عن سبب عدم تدخل مرافقه الذي كان يصوره لمنعه من إيذاء نفسه، فيما اعتبر أحد النواب أن ما حدث مدعاة للتأمل في حال المجتمع.
كما طالب “حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” بفتح تحقيق مستقل وجاد وشفاف يُحدد الوقائع والمسؤوليات المؤسسية والفردية، ويُحاسب كل من ثبت تورطه، مشددًا على أن مثل هذا التحقيق لا يمكن أن تجريه المؤسسات ذاتها التي كانت محل اتهام من قبل الضحية.
وخلص الحزب المعارض إلى أن لا مخرج من هذا الوضع إلا بإرساء عدالة مستقلة ومنصفة ومتاحة للجميع، وإعادة الاعتبار لمعنى العدالة كحصن ضد الظلم، لا كأداة في خدمته.
تعليقات الزوار
لا تعليقات