تمر اليوم الذكرى الأربعة والثلاثون لأحداث يوم الخامس أكتوبر عام 1988، ورغم أن أحداثه شكلت منعرجًا كبيرًا في تاريخ السياسي الجزائري المعاصر، غير أن الذكرى لم تُرسم بشكلٍ رسميٍ وتوثيقي كمحطة تاريخية فاصلة في الانتقال الديمقراطي، قد تشكل مرجعية نضالية وضعت حدًا للاستبداد السياسي، وإنهاء عهد الحزب الواحد وبداية الانفتاح السياسي والتعددية الحزبية، والإفراج عن حرية الصحافة والإعلام.
في سياق الموضوع، تبرز أحداث أكتوبر 88 تباينًا وتباعدًا حول خلفيات ودوافع المظاهرات والانفجار الشعبي، فهل كانت الأحداث مفتعلة؟ هل كان من ورائها أطرف من النظام السياسي آنذاك؟ أم أن تلك المظاهرات ما هي إلا نتيجة تراكمت من سوء الإدارة والفساد العام، الذي انعكس عنه تردي الأوضاع الاقتصادية واستفحال المشاكل الاجتماعية وصعود الأوليغارشية؟
من جانبه، في تقدير بعض المحللين فإن انفجار الأوضاع في أكتوبر 88، جاءت وليدة عدة العوامل، منها ما هو مرتبط بأزمة النظام السياسي بالجزائر، إضافة إلى انتكاسة الأوضاع الاقتصادية وتراجع القدرة الشرائية، وعلى ضوء ذلك فالمطالبة بالتغيير الأوضاع السائدة سياسيًا واقتصاديًا تتطلب أيضًا رفع مطالب بالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية القائمة على التشاركية الديمقراطية وإنهاء الأحادية الحزبية.
التيار الإصلاحي في مواجهة تيار العهد القديم
في سياق متصل، جاء صعود التيار الإصلاحي الليبرالي داخل سرايا الحكم نتيجةً لفشل التيار المحافظ الشمولي في إدارة وتسير البلد، فدفع هذا الخلل إلى بروز أصوات داخل النظام السياسي تدعو إلى التجديد والإصلاح السياسي والاقتصادي لتوجهات تقليدية حاكمة باتت غير قادرة على إنتاج أفكار وحلول واقعية، وتقف عقبة أمام الكوادر الشابة الصاعدة.
وبالفعل كان التيار الإصلاحي يرى أن الانفتاح الديمقراطي والسياسي من شأنه معالجة حالة الاحتقان الشعبي، ومن شأن الإصلاحات السياسية أن تفتح الطريق من أجل إصلاحات اقتصادية جذرية وعميقة.
التيار المحافظ
في المقابل، رأى التيار التقليدي المحافظ، والذي لم يطرأ عل على بنيته الفكرية والسياسية أي تطور جديد، أن الانفتاح السياسي يهدد سكينة النظام السياسي ويشكّل خطر ًا على تماسك الدولة الوطنية، ونظرًا إلى الثقافة السياسية السائدة آنذاك تم الاعتقاد الراسخ أن الدولة الوطنية تذوب داخل النظام السياسي بمكوناته الحزبية وأجهزته الإدارية والمدنية وفروعه الأمنية والعسكرية.
كان الجهاز السياسي المتمثل في جبهة التحرير الوطني المنهك القوى، أهم المراكز السياسية الفعلية داخل السلطة، احتل تلك المكانة بفضل تهميش وإضعاف المكونات الأخرى كالأمن العسكري ومؤسسة الجيش، وتحييد كافة العناصر المدنية أو التكنوقراطيين، المطالبين بالتغيير والتوجهات الاقتصادية الجديدة، فقد أقر حزب جبهة التحرير الوطني في المادة 120 من القانون الأساسي للحزب والذي يشترط أن تولي مناصب قيادية في الدولة العضوية في الحزب.
في هذا الإطار، شكل محمد الشريف مساعدية خليفة محمد الصالح يحياوي دورًا محوريًا في تحويل الحزب من هيكل إداري إلى جهاز سياسي-أيديولوجي متكون من العربي زبيري، بشير خلدون، محمد عبادة، وعبد القادر حجار (المكلف بملف التعريب) والعميد الهاشمي هجري وكمال عبد الرحيم ومحمد علاق من إطارات الجيش.
وعلى الرغم من الإصلاحات الاقتصادية التي باشرها التيار المحافظ، غير أنها لم تتضمن تعديلات جدرية، بل إعادة هيكلة المؤسسات الصناعية وبعض التنازلات البسيطة لصالح القطاع الخاص، وبدأيه تأسيس "برجوازية الدولة" أو الأوليغارشية.
التيار الإصلاحي الليبرالي
في المقابل ظهرت بوادر التيار الإصلاحي لليبرالي في مواجهة التيار المحافظ المتمسك بالخيار الاشتراكي -العروبي، وبدأ في كسب النفود والسيطرة بعد فشل التوجه المحافظ واستشراء الفساد والمصالح الريعية، فخلال تنصيب لجنة تحضير المؤتمر السادس للجبهة التحرير الوطني صرح الرئيس الشاذلي بن جديد أن "المرحلة القادمة ستحمل متطلبات لم تعرفها البلاد من قبل"ـ، وقد كان عربا التيار الإصلاحي كل من العربي بلخير رفقة مولود حمروش الذي اشتغل مسؤول الأمانة العامة للحكومة منذ 1984 وساهم في إعداد النصوص خاصة بالإصلاحات الاقتصادية، ثم أمين عامًا برئاسة الجمهورية سنة 1986، كما كان المشرف على لجنة صياغة دستور 1989.
اكتسب مولود حمروش ثقة الرئيس الشاذلي بن جديد، وبادر رفقة بعض الكوادر التكنوقراطية داخل الدولة إلى تأسيس كيان في مواجهة التيار التقليدي، وكان موعد المؤتمر السادس للحزب فاصلًا في المُجَابَهة.
الشاذلي في مواجهة التيار المحافظ
وعلى ضوء صعوبة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وانعدام فضاءات الحرية، ومواجهة الأوضاع بالعنف المؤسساتي وتضارب المصالح، تراكمت أزمة الوضع السياسي، وباتت الصراعات بين التيار الإصلاحي والمحافظين تبرز في الشارع، خصوصًا مع قرب موعد إثراء مشروع الميثاق الوطني، والتحضير للمؤتمر السادس المزمع عقده سنة 1988 وتعيين المرشح لرئاسة الجمهورية، ومحاولة إبعاد الشاذلي بن جديد من الترشح مرة أخرى.
كان أبز آثار الأزمة السياسية، تداول إشاعات عن إلغاء الشاذلي بن جديد تطبيق تعميم التعريب، وترقية أعضاء "حزب فرنسا"، ورفض مشروع الاتحاد مع ليبيا، ما ترتب عنه انتقادات مباشرة من طرف رئيس الجمهورية موجهة للحزب والحكومة.
الحركات السياسية
من جانبه، وأمام حالة تصدع وانسداد النظام سياسيًا واقتصاديًا، كان الشارع السياسي يشهد حراكًا ونشاطًا سريًا، فبرزت تنظيمات من التيار الإسلام السياسي الحركي المحلي والعالمي من جهة، وتمرد المسلحون بقيادة بوياعلي، إضافة إلى ظهور الحركة الثقافية البربرية، والنشاط المكثف للتنظيم الشيوعي المتمثل في حزب الطليعة الاشتراكي.
1988 الدخول الاجتماعي والسياسي الصعب
بدأت حركة الإضرابات مع الدخول الاجتماعي سنة 1988، وتصاعدت الحركة الاحتجاجية في الرابع أكتوبر مساءً بالعاصمة على غرار ضواحي باب الواد والمنطقة الصناعية الرويبة والرغاية، وانتشرت المظاهرات في صباح الخامس من الشهر نفسه في كافة ضواحي العاصمة وتوسعت إلى مناطق الوطن، حينها أصدر المكتب السياسي للحزب بيانًا يوم الـ 5 من شهر أكتوبر واصفًا المظاهرات بأعمال شغب "قامت بها مجموعة لا تتمتع بالحس الوطني مدفوعة بأيادي خفية من الخارج".
وعلى إثر الأحداث قرر رئيس الجمهورية إعلان حالة الحصار في السادس من تشرين الثاني /أكتوبر ، وبوجبها دخل الجيش بمدرعات وفرق عسكرية يقودها خالد نزار إلى العاصمة.
وعلى العموم وبعيدًا عن التأويلات التأمرية والتخمينات، فإن أحداث أكتوبر 1988 هي نتيجة القطيعة بين الدولة وهياكلها المهترئة وبين مجتمع مُشبع بالطاقة والديناميكية، فكانت نتائج الإخضاع والاحتقار، واستعمال العنف وسيلة للتعبير ضد رموز النظام، فضلًا عن فشل للسياسات اقتصادية منذ 1962، وغياب المشاركة السياسية والاعتماد على الأحادية والأبوية الشمولية في إدارة الدولة والمجتمع.
تعليقات الزوار
لا تعليقات