تؤكد محاولة الانقلاب في بوركينا فاسو بشكل أكبر تقلص النفوذ الفرنسي في غرب إفريقيا، لا سيما لمصلحة روسيا التي تحاول ركوب موجة عداء لباريس من جانب الرأي العام، فيما ترسم كذلك ملامح انسحاب محتمل لقوة سابر على غرار ما حدث لقوة برخان في مالي.
ويبدو المشهد ضبابيا في البلاد، لكن التوجهات المناهضة لفرنسا ليست جديدة ولا عشوائية وتكتسب زخما متزايدا، بينما يتوسع نشاط الجماعات الجهادية في منطقة الساحل ويتمدد باتجاه خليج غينيا.
وبعد نحو أربع وعشرين ساعة من بدء الانقلاب على اللفتنانت كولونيل بول هنري سانداوغو داميبا الذي وصل هو نفسه إلى السلطة اثر انقلاب في يناير/كانون الثاني، اتهم الانقلابيون فرنسا بدعمه لاستعادة السلطة ما أربك المشهد في ظل نفي قاطع من باريس لذلك الاتهام.
وقال زعماء دينيون وقبليون في بيان مشترك إن القائد العسكري الجديد لبوركينا فاسو الكابتن إبراهيم تراوري قبل استقالة مشروطة قدمها الرئيس بول هنري داميبا لتجنب المزيد من العنف بعد انقلاب يوم الجمعة.
وقاد داميبا نفسه انقلابا هذا العام على حكومة مدنية فقدت الدعم بسبب تصاعد عنف المتشددين الإسلاميين. وأدى فشل دميبا في وقف هجمات الجماعات المتشددة إلى غضب في صفوف الجيش.
قال تراوري الذي نصب نفسه قائدا عسكريا لبوركينا فاسو إن استعادة النظام في البلاد جارية بعد احتجاجات عنيفة مناهضة للسفارة الفرنسية واشتباكات على مدى أيام مع تحرك مجموعته للإطاحة بالحكومة.
وحثت الناس اليوم الأحد على الامتناع عن أعمال تخريب السفارة الفرنسية التي استهدفها المحتجون بعد أن قال ضابط مشارك في الانقلاب المستمر إن باريس آوت الرئيس بول هنري داميبا في قاعدة عسكرية فرنسية بالدولة الواقعة في غرب أفريقيا وإن الرئيس المعزول يخطط لهجوم مضاد.
ونفت وزارة الخارجية الفرنسية أن القاعدة استضافت داميبا بعد الإطاحة به يوم الجمعة. ونفى داميبا أيضا أنه داخل القاعدة، قائلا إن هذه التقارير تمثل تلاعبا متعمدا بالرأي العام. ولا يزال مكان وجوده مجهولا.
وتلا ضابط بالجيش بيانا عبر التلفزيون الوطني جاء فيه "نود إبلاغ السكان بأن الوضع تحت السيطرة ويتم استعادة النظام"، وذلك بحضور تراوري وعسكريين آخرين بعضهم كانوا ملثمين.
وساد الهدوء في العاصمة وذلك بعد إطلاق نار متقطع طوال يوم أمس السبت بين فصائل متناحرة في الجيش.
وقال الضابط الموالي لتراوري "ندعوكم لمواصلة أنشطتكم والامتناع عن جميع أعمال العنف والتخريب... لا سيما تلك التي تستهدف السفارة الفرنسية والقاعدة العسكرية الفرنسية"، داعيا الناس إلى التزام الهدوء.
وجاء البيان بعد أن تجمع المئات، بعضهم يلوح بالأعلام الروسية ويؤيد انقلاب تراوري، احتجاجا أمام السفارة الفرنسية يومي السبت والأحد رشقوا خلاله الحجارة وأضرموا النيران في إطارات السيارات والحطام.
كما تجمع متظاهرون مناهضون لفرنسا ورشقوا المركز الثقافي الفرنسي في بلدة بوبو ديولاسو الجنوبية بالحجارة. كما تعرضت شركات فرنسية للتخريب صباح اليوم الاحد.
كما أكد الانقلابيون الجمعة "عزمهم التوجه إلى شركاء آخرين على استعداد للمساعدة في مكافحة الإرهاب". وعُدت تلك إشارة ضمنية إلى روسيا التي رفعت أعلامها خلال تظاهرات تشهدها بوركينا فاسو منذ يومين.
واعتبر الخبير في شؤون المنطقة بجامعة كينت في بروكسل إيفان غويشاوا السبت، أن "الانقلابيين يدرجون خطوتهم بوضوح شديد ضمن الاستقطاب الحاصل بين روسيا وفرنسا".
وأضاف عبر تويتر "من المدهش أن نرى الانقلابيين يعلنون تحمسهم بهذه السرعة لـ+شريكهم الاستراتيجي+ المتميز. كنا نتخيل أنهم سيأخذون السلطة أولا ثم يصعدون الموقف".
وطرح الخبير فرضيتين "إما أن العمل مع الروس كان مشروعهم منذ البداية وبالتالي نحن أمام خطة مدروسة بعناية لزعزعة الاستقرار، أو أنهم يستغلون بشكل انتهازي الاستقطاب الفرنسي/الروسي لحشد الدعم لمشروعهم المترنّح".
وتعرضت السفارة الفرنسية في واغادوغو إلى اعتداءين السبت والأحد اللذين شهدا إضرام النار في حواجز حماية ورشقها بالحجارة، ما يمثل الصفعة الأكثر قسوة لباريس لأنها تندرج ضمن نزوع خطير.
وفي مالي المجاورة نشرت فرنسا قوة برخان المناهضة للجهاديين لمدة تسع سنوات لمكافحة الجماعات المحسوبة على تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية، قبل أن يشهد البلد انقلابين عام 2020 أوصلا إلى السلطة عسكريين معادين لحضورها، ما قاد الرئيس إيمانويل ماكرون لإعلان سحب القوات الفرنسية وإعادة نشرها في دول أخرى بالإقليم.
بموازاة ذلك، انتشر عناصر من مجموعة المرتزقة الروسية الخاصة فاغنر في مالي التي تتحدث فقط عن الاستعانة بـ"مدربين من روسيا". وزاد مذاك نفوذ موسكو في باماكو، لا سيما عبر شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الروسية.
وتحدث تقرير حديث صادر عن معهد البحوث الإستراتيجية التابع لوزارة الدفاع الفرنسية، عن "انتشار محتوى مضلل عبر الإنترنت، يهدف غالبا إلى تشويه الوجود الفرنسي وتبرير حضور روسيا".
كما أشار إلى انتشار هذه الظاهرة في الدولة المجاورة. وقال إن "أرض الرجال النزيهين (بوركينا فاسو) هي اليوم واحدة من البلدان الإفريقية التي تستهدفها فاغنر". وأشار التقرير إلى الزيادة الكبيرة في عدد قرّاء النسختين الفرنسيتين من موقعي "آر تي" و"سبوتنيك" الإعلاميين الروسيين خلال عام واحد.
وخارج منطقة الساحل، يتراجع أيضا نفوذ فرنسا بوضوح في غرب إفريقيا الذي كان ذات يوم "الفناء الخلفي" لها.
وأضاف التقرير الفرنسي أن "المطالبة بالديمقراطية تضعنا في خلاف مع الأنظمة التي بصدد التراجع في هذا الصدد ولا تتردد في الإشارة إلى المنافسين الذين لا يربطون دعمها بأي معيار داخلي"، مشيرا خصوصا إلى "العرض الروسي".
وبعد انسحابها من مالي، تعهدت باريس بعدم التراجع عن مكافحة الجهاديين الذين يهددون علانية دول خليج غينيا. ويفترض أن هناك نقاشات جارية بين باريس والدول الإفريقية المعنية، لكن فرنسا تبدي رغبة في التكتم على الموضوع.
وكان نائب رئيس عمليات برخان في نيامي الكولونيل أوبير بودوين قد قال هذا الصيف "نحن نغير نموذجنا لم يعد التدخل بأسطول حربي متماشيا مع العصر".
وعند سؤاله عن الانقلاب في بوركينا فاسو، يؤكد مصدر أمني من غرب إفريقيا أن الرياح الإقليمية غير مواتية لباريس، ويتساءل بسخرية "من التالي؟"، مضيفا "شعار فرنسا ارحلي يتردد أيضا في السنغال وساحل العاج، وإن كانت هذه الأصوات ضعيفة حتى الآن".
وقد تضطر فرنسا في نهاية المطاف إلى مغادرة بوركينا حيث ينتشر حوالي 400 من عسكرييها ضمن قوة سابر الخاصة التي تدرب الجيش المحلي في ثكنة قرب واغادوغو. وهذا الرحيل "مؤكد" في رأي مصدر عسكري عمل مرات عدة في منطقة الساحل.
تعليقات الزوار
لا تعليقات