هذا هو حال الكثير من الفنانين والفنانات، تحديدا عندما يتعلق الأمر بممثلي السينما والمسرح، كما بينته حالة محمد حزيم الممثل الفكاهي الذي توفاه الله الأسبوع الماضي في مدينة وهران. الرجل الطيب الذي قتلته الوسائط الاجتماعية عدة مرات، قبل وفاته الحقيقية ودفنه في جنازة، تحولت إلى مكان للترويج لألعاب البحر الأبيض المتوسط التي ستحتضنها المدينة، بعد شهر من الآن.
ترويج قام به أحد زملاء الفقيد، بحضور السلطات الرسمية وعلى رأسها والي الولاية أثناء دفن الفقيد، من دون أدنى احترام لمشاعر عائلته ولا لحرمة المكان. أكدت حالة الهشاشة الاجتماعية وحتى النفسية التي يعيشها الأغلبية العظمى من الفنانين، وعلى رأسهم الممثلون الذين لا يستطيعون ضمان فترات عمل معقول طول السنة، تسمح لهم بضمان دخل مالي معقول يقيهم عوادي الدهر، فتحولوا إلى مهرجين لدى السلطان في كل مكان ووقت.
السائد في الجزائر أن الممثل يعيش حالة بطالة مقنعة، طول السنة، ما يجعله يعيش حالة هشاشة اقتصادية واجتماعية وبالتالي نفسية، انعكست على سلوكه اليومي وهو يتحول إلى شبه «مهرج» لدى ممثلي السلطة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالولايات الداخلية، يُستعمل فيها للترويج للخطاب الرسمي وكل أنواع النشاطات التي تدعوا لها السلطات، خاصة عندما يتعلق الأمر بالاستحقاقات الانتخابية التي تحول داخلها هذا النوع من الممثلين إلى جزء أساسي من ديكورها القبيح. بالطبع لا تنطبق هذه الصورة على الكل، فالكثير من الوجوه الفنية الجادة تعرف كيف تقاوم هذا الوضع، مفضلة الابتعاد عن الساحة الفنية، حتى إن كان الجوع كافرا، كما يقال، لا يسمح بالكثير من الخيارات، ليبقى الحل النهائي هو الاعتزال، كما صرح بذلك في المدة الأخيرة الممثل المعروف كمال بوعكاز وهو في عز نضجه الفني. أسباب موضوعية يمكن ذكرها ونحن نتحدث عن وضعية الفنان الجزائري، تفسر هذه الحالة البائسة، يأتي على رأسها شح النشاط الفني وعدم انتظامه طول أيام السنة، إذا استثنينا فترة شهر رمضان، التي لم تعد قادرة على توفير العمل إلا لبعض الوجوه وليس العدد الكبير منها، كما كانت تفعل في السابق، بعد أن زاد عدد الفنانين وقل فيه اهتمام الدولة بهذه النشاطات الفنية التي تضع أمامها في المقابل الكثير من العوائق البيروقراطية، كما يحصل عند طلب تصوير فيلم أو مسلسل، في بلد لم ينجح، رغم مؤهلاته الطبيعية، في تكوين شبه قاعدة صناعة سينمائية، كما هو حاصل عند الجيران شرقا وغربا، بلد اختفت فيه مئات القاعات السينمائية التي ورثها عن الفترة الاستعمارية، كما كان سائدا في العاصمة، فقد عشت وأنا صغير في حي شعبي – بيلكور، كان يتوفر على خمس أو ست قاعات سينمائية، كونت جزءا أساسيا من حياتنا الثقافية كأطفال وشباب، لغاية ثمانينيات القرن الماضي. وضع استمر مع جيلي عند وصولي إلى الجامعة التي كانت موجودة في وسط المدينة حتى تلك الفترة، ما جعل الذهاب إلى السينما أسبوعيا على الأقل، طقسا ثقافيا دائما نصرّ عليه ونحن طلبة بحضور زميلاتنا وصديقاتنا.
لم تختف فقط القاعات السينمائية، بل اختفت شركات الإنتاج السينمائي التي انطلقت في السنوات الأولى للاستقلال، بما فيها شركات توزيع الأفلام التي تم تأميمها خلال مرحلة الاحتلال الفرنسي للجزائر، واستمرت لبعض الوقت بعد الاستقلال، لتختفي في فترة لاحقة المؤسسة الرسمية المكلفة بقطاع السينما التي كانت دولة الاستقلال وراءها في مرحلة الاستقلال الأولى. تبين مع الوقت أنها اكتفت بإنتاج أفلام المدير العام المتربع على رأسها، وبعض المقربين الذين ترضى عنهم السلطة، في كل محطة سياسية – الأسماء معروفة لا داعي للتذكير بها، يكفي العودة الى الأفلام المنتجة خلال هذه الفترة، لتغلق الساحة الفنية أمام إمكانيات الإنتاج الدولي المشترك، التي أصبح الوصول إليه يتطلب معجزة حقيقية، لنكون أمام النتيجة المنطقية التي عشناها لاحقا. تصحر ثقافي وفكري، استغلته التيارات الدينية المنغلقة وهي تستولي على ما تبقى من عقول الشباب، بداية من هذه الفترة بالذات، التي لم يعد يعرف فيها الشاب معنى بالذهاب إلى قاعة سينما ولا حضور حفل فني.. تحول مع الوقت إلى شيء محرم ومنبوذ اجتماعيا، كما تؤكد ذلك حملات التفتيش التي انطلقت بقوة داخل قاعات السينما عن الأيادي الملتصقة.
هذا الوضع الاجتماعي والثقافي العام هو الذي يفسر، كخلفية تاريخية، كيف تحول الممثل السينمائي إلى طالب – شحاذ في حاجة الى مساعدة اجتماعية شبه يومية، تكون أكثر الحاحا وهو يمرض وهو يلاقي ربه في أسوأ الظروف، كما رأينا ذلك عشرات المرات، يصبح فيها تدخل رئيس الجمهورية أو وزير الثقافة حتمية وجودية، لمن يتمكن من الوصول الى هذا المستوى من المسؤولين، من المشاهير ليست في متناول الكل بالطبع، في غياب قطاع صحي بمواصفات معقولة، تسمح بالتكفل بالمرضى من المواطنين، بمن فيهم الفنانون، لم تتمكن الجزائر من توفيره، كما لم تتمكن من وضع سياسية ثقافية معقولة، تسمح بتوفير الشغل للجميع، وتحمي الأمن الثقافي للبلد.
حالة تنبه لها المطربون والمغنون وهم يغادرون البلد، وهم يتوجهون للإقامة والعمل في باريس، لإحياء حفلاتهم، التي يمكن أن تدر عليهم دخلا معقولا وتقيهم غدر الأيام.. زيادة بالطبع على الحفلات التي يمكن ان يقوموا بإحيائها داخل الجزائر، في الأعراس والمناسبات العائلية لمن ما زال مطلوبا عند الجمهور. وضع احتاط له المطربون المشهورون منذ زمن طويل وهم يُولفون بين عملهم الفني ونشاطات مهنية أخرى قريبة او بعيدة عن مجال نشاطهم الأصلي. كما اعتادت عليه عائلة الفرقاني وهي تتجه نحو صناعة اللباس التقليدي الخاص بالنساء، كمثال معروف ضمنت به العائلة كرامتها، في غياب مؤسسات الدولة والمجتمع غرار نقابات الفنانين، التي لم تظهر في الحالة الجزائرية كانعكاس لهذا الضعف الذي يميز المهنة وناسها، ما زال فيها الفنان والممثل لا يجد من يضمن له مصاريف جنازته كآخر حضور له على خشبة الحياة.
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لماذا يموت الفنان في الجزائر فقيرا
يا ناصر جابي كان عليك أن تقول ; لماذا الشعبي يموت فقيرا في الجزائر ؟