في بهو مشرحة مستشفى شهداء الأقصى، كان الجد عز الدين كشك يقف متهدّل الكتفين، كأن سنوات عمره سقطت كلها فوق رأسه دفعة واحدة. أمامه جثمان حفيده «سالم»، طفل لم يُكمل عامه الرابع، يرقد على طاولة باردة لم تعتد احتضان الأحياء.
كان الجد يردد بصوت متهدّج: «كان يمشي في البيت مثل الضوء.. يضحك، يملأ المكان فرحًا.. فجأة وجدته ملفوفًا في كفن صغير لا يليق بطفل». بدا الرجل كمن فقد بوصلته، يمدّ يده نحو الجثمان ولا يعرف أين يضعها، على الرأس أم على الصدر أم فوق البطانية التي تغطي الجراح.
دم لا يجف
ويقول الجد إن سالم استُشهد مع أخته الصغيرة، التي لم تبلغ عامها الثاني بعد. كانت تحتفل قبل أيام بقدرتها على الوقوف للمرة الأولى، فإذا بالقصف يحوّل خطواتها الأولى إلى صمت مطبق.
يروي لـ«القدس العربي»: «لم أستوعب أن جسدها صار هشًا إلى هذا الحد.. حملتها بين يديّ فشعرت كأن عظمها ينهار». لم تكن الطفلة وحدها في ذلك القصف الذي ضرب وسط قطاع غزة، فقد سقطت إلى جانبها مجموعة من المدنيين، بينما أصيبت الأم إصابات خطيرة ما تزال تبقيها في العناية المركزة، بعد كسور في الحوض والظهر وعشرات الشظايا الموزعة في جسدها.
يرفع الجد يده إلى السماء ويقول: «أي هدنة هذه التي تحدثون عنها؟! إذا كان الأطفال يموتون تحتها، فما الذي تغير عن أيام الحرب؟». يصف الرجل لحظة وصول الجثامين إلى المستشفى أنها «زلزال»، فقد هرع الناس من كل الجهات، بعضهم يبحث عن مفقود، وآخرون يحاولون التعرف على أشلاء متفرقة.
ويضيف: «غزة لا تعرف الراحة.. حتى حين يعلنون وقف إطلاق النار، تستمر البيوت بالنزيف».
ويؤكد أن العائلة لم تكن تعلم أن الغارة استهدفت محيط منزلهم إلا بعد دقائق من الانفجار، حين امتلأت السماء بالغبار والدخان، وانقطعت الأصوات إلا من صراخ الجيران. يتنهد طويلًا قبل أن يختم: «رحم الله سالم.. طفل لم يعرف من الدنيا سوى الحصار والخوف».
وقعت تلك المجزرة في يوم 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، عندما استُشهد 16 فلسطينيًا في قصف أربعة منازل في دير البلح ومخيم النصيرات وسط القطاع. كما تعرضت مناطق شرقي خان يونس لقصف مدفعي داخل الخط الأصفر. وتؤكد مصادر حقوقية أن هذه العمليات «تشكل خرقًا صارخًا للاتفاق»، وأنها «تتم تحت إشراف مباشر من الجيش الإسرائيلي دون وجود أي رادع دولي».
خروقات تتجدد
منذ أكثر من شهر ونصف الشهر على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، يواصل الاحتلال الإسرائيلي تنفيذ عمليات عسكرية واسعة داخل قطاع غزة، في خرق وصفه فلسطينيون أنه «أكبر من مجرد تجاوز».
فجر الأحد، شنت طائرات الاحتلال غارات عنيفة شرقي مدينة خان يونس جنوب القطاع، مستهدفة مناطق تعد مكتظة بالنازحين والسكان، مخلفة حالة من الهلع في أوساط العائلات التي كانت تظن أن الهدنة ستمنحها شيئًا من الأمان.
ولم تكتف القوات الجوية بالتصعيد، إذ أطلقت الزوارق الحربية الإسرائيلية نيرانها باتجاه قوارب الصيادين الفلسطينيين في عرض بحر خان يونس. ويقول أحد الصيادين الذين كانوا على مقربة من المنطقة إن الرصاص اخترق سطح الماء «كما لو كان يطاردنا».
وأضاف لـ«القدس العربي»: «حتى البحر لم يعد لنا.. كل شيء في غزة أصبح خطًا أحمر».
وفي التوقيت ذاته، فتحت المروحيات العسكرية الإسرائيلية نيران رشاشاتها الثقيلة على مناطق جنوب شرقي خان يونس، ما أدى إلى إصابة عدد من المواطنين وتدمير أجزاء من الأراضي الزراعية.
يأتي هذا فيما تواصل قوات الاحتلال قصف بلدة بني سهيلا شرقي خان يونس، داخل ما يسمونه «الخط الأصفر»، وهي منطقة يفترض أنها خاضعة للتهدئة. القصف المتكرر أسفر عن استشهاد فلسطيني وإصابة آخر بجروح خطيرة، حسب ما أفادت به مصادر طبية محلية.
وتؤكد الطواقم الطبية لـ»القدس العربي» أن «المنطقة تستهدف منذ أيام دون توقف»، وأن وصول الطواقم إلى المصابين يجري «تحت الخطر».
ويقول المسعف محمود الشريف الذي هرع إلى مناطق القصف شرقي خان يونس: «عندما وصلنا، كانت المشاهد صادمة.. جثث متناثرة وصرخات المصابين تعلو فوق صوت الانفجارات. كل دقيقة تمر هي حياة تفقد، وكل جريح يحتاج إلى رعاية عاجلة وسط صعوبة الوصول بسبب استمرار القصف».
ويضيف: «حتى الطواقم الطبية ليست بأمان؛ نتعرض للقصف أثناء محاولتنا إسعاف المدنيين. نعمل تحت ضغط نفسي هائل، وقلوبنا تتقطع ونحن نشاهد أطفالًا ونساءً يسقطون أمام أعيننا بلا أي ذنب».
ويروي الشريف لـ»القدس العربي» لحظات التوتر حين حاول إسعاف رجل وامرأة كانا يسيران على الأقدام قرب موقع القصف: «كنت أحاول نقلهم إلى سيارة الإسعاف، لكن القصف لم يتوقف، اضطررنا للتراجع مرات عدة. الواقع هنا يؤكد أن أي هدنة ليست سوى كلمات على الورق».
وتشير المعطيات الميدانية إلى أن الاحتلال يحافظ على نمط واضح: تصعيد متقطع يخلّف في كل مرة شهداء وجرحى ومنازل مدمرة، ثم يعود للإعلان عن «التزامه بالتهدئة». وهذا ما يسميه ناشطون «تكتيك قتل بطيء» يسمح للقوات الإسرائيلية بالتحرك بحرية في كل المناطق «تحت مظلة الاتفاق».
سيارة العباسي
في يوم 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، اهتز مفترق العباسي في مدينة غزة على وقع انفجار هائل استهدف سيارة مدنية.
كان الشاب محمد المسارعي يمر في المكان مصادفة، فشاهد المشهد كاملًا. يقول لـ»القدس العربي»: «رأيت النار تشتعل في السيارة قبل أن أسمع صوت الانفجار. كل شيء حدث في ثانية واحدة». يوضح أن ثلاثة أشخاص كانوا داخل المركبة استشهدوا على الفور، بينما سقط رجل وامرأة كانا يسيران على الأقدام «لا علاقة لهما بالسيارة ولا بأي نشاط»، كما يؤكد.
يضيف محمد: «كنا نعتقد أن الهدنة ستجعل الطرق آمنة. لكن ما رأيته يومها جعلني أشعر أننا نعيش في مرمى النيران في كل لحظة». يصف المشهد أنه «مجزرة صغيرة»، فالجثامين تطايرت خارج السيارة، والزجاج انتشر في المكان، والناس هرعت من كل الجهات وهي تصرخ: «يا الله.. يا الله».
ويشدد على أن الفلسطينيين «لا يشعرون بأي تهدئة»، وأن كل يوم «يحمل قصفًا ودماء». يقول: «نحن نذبح من الوريد إلى الوريد بموافقة دولية. لا أحد يوقف هذه الحرب مهما تحدثوا عن هدنة».
وفق مصادر إسرائيلية، فإن استهداف السيارة في غزة جاء – كما تزعم – «ردًا على خرق اتفاق وقف إطلاق النار» من قبل حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، وأن الشخص المستهدف كان علي حديدي، مسؤول قسم التسليح في «كتائب القسام»، جناحها العسكري.
لكن المعلومات لم تؤكد فلسطينيًا، بينما أشار شهود العيان إلى أن المدنيين الذين استشهدوا لم تكن لهم أي علاقة بالسيارة أو بالشخص المذكور.
وقالت «هيئة البث الإسرائيلية» إن الهجوم تم بتنسيق مع مركز التنسيق المدني العسكري الأمريكي في كريات غات، وإن العملية جاءت بعد «اجتياز مسلح فلسطيني للخط الأصفر وإطلاقه النار». غير أن منظمات حقوقية فلسطينية وصفت هذه الرواية أنها «حجة جاهزة» تُستخدم بشكل متكرر لتبرير القصف.
رصيف بلا أمان
في بيت متواضع وسط غزة يجلس إبراهيم عز الدين، ابن عم الشهيد الذي كان يسير مترجلًا قرب مفترق العباسي لحظة استهداف السيارة. يقول إن ابن عمه لم يكن مرتبطًا بأي جهة، وكان ذاهبًا لشراء بعض الاحتياجات المنزلية. يضيف بصوت حزين: «أريد أن أعرف: هل نحن في هدنة أم في حرب؟! ما نراه على الأرض يقول إن كل شيء مستمر كما كان».
ويتابع لـ»القدس العربي»: «القصف لا يتوقف، حتى في المناطق التي يسمونها صفراء. ابن عمي استُشهد في مكان يقولون إنه آمن. ما معنى كلمة آمن إذن؟». ويشير إلى أن العائلة تعيش حالة صدمة متواصلة، «فالناس تخشى الخروج من منازلها، لا فرق بين طفل ورجل كبير، كلنا أهداف محتملة».
ويؤكد أن الأخبار التي تتحدث عن وقف إطلاق النار «لا علاقة لها بالواقع»، فالهجمات – كما يقول – «مستمرة ليلًا ونهارًا»، والمواطنون يعيشون بين احتمالين: «إما النجاة بالمصادفة، أو السقوط شهداء دون أي سبب».
حصار يتعمق.. وخروقات بالجملة
وقال إسماعيل الثوابتة، مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، لـ»القدس العربي»، إن ما يجري «يدل على أن الاحتلال يستخدم المساعدات كورقة ضغط وليست التزامًا إنسانيًا».
ويؤكد أن الوضع المعيشي يتدهور «بشكل لا سابق له»، وأن البنية التحتية والخدمات الأساسية «تتعرض لدمار ممنهج»، بينما يعيش القطاع الصحي «مرحلة كارثية» بفعل النقص الحاد في الدواء والغذاء والوقود. ويشير إلى أن استمرار الخروقات الإسرائيلية «من دون أي محاسبة دولية» يشجع الاحتلال على «التمادي في قتل المدنيين واستهدافهم في كل مكان».
ويضيف: «ما يحدث ليس مجرد تجاوزات، بل سياسة ممنهجة تشمل إطلاق النار على المزارعين والصيادين والنازحين، إضافة إلى عمليات التوغل المستمرة في مناطق عدة». ويرى أن غياب الضغط الدولي الحقيقي «أخرج الاحتلال من أي التزام، وترك السكان المدنيين تحت رحمة آلة قتالية لا تتوقف».

تعليقات الزوار
لا تعليقات