عندما شوهدت طائرات سلاح الجو على رادارات القاعدة الأمريكية بقطر وهي في طريقها لمهاجمة فيلا خليل الحية في الدوحة، وتصفية قادة حماس، عقد في القاهرة لقاء مهم مر قليلاً تحت الرادار الإقليمي والدولي، شارك فيه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، والأمين العام للوكالة الدولية للطاقة النووية روفائيل غروسي، برعاية وزير خارجية مصر بدر عبد العاطي. لقد وقع هناك اتفاق قد يمهد الطريق لاستئناف المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران، ويبعد عن إيران العقوبات، وربما يدفع قدماً باستئناف العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وطهران.
حسب هذا الاتفاق الذي ما زالت تفاصيله سرية، ستسمح إيران باستئناف عمل المراقبين في كل المنشآت النووية، بما في ذلك التي تضررت بسبب القصف الإسرائيلي والأمريكي (الذي أدى إلى وقف الرقابة). استئناف الرقابة واحد من الشروط الثلاثة التي وضعتها الدول الثلاثة، ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، أمام إيران كأساس للموافقة على تأجيل تفعيل فرض العقوبات لنصف سنة. الشرطان الآخران هما تقديم تقرير كامل عن الـ 404 كغم من اليورانيوم المخصب بمستوى 60 في المئة، واستئناف المفاوضات حول اتفاق نووي جديد مع الولايات المتحدة.
أوضح غروسي بأن الاتفاق الجديد سيضمن “إجراء رقابة جديدة أكثر شفافية”. وحول تفاصيل تطبيقه، سيتعين على الطرفين مناقشة ذلك. فيما يتعلق بالقانون الإيراني الذي تم سنه بسرعة بعد الهجوم، الذي يحظر التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة النووية، المتهمة بنقل معلومات لإسرائيل، أوضح عراقجي بأن الاتفاق الجديد تم طبقاً للقانون، ويسمح برقابة خاضعة للمصادقة التي أعطاها المجلس الإيراني للأمن القومي. ولكن الجدول الزمني يلح ولا يبقي هامشاً مفتوحاً للنقاشات: دول أوروبا بدأت في تفعيل آلية فرض العقوبات. في آب الماضي، توجهت هذه الدول إلى الأمين العام للأمم المتحدة وطلبت تفعيل هذه الآلية، والموعد الأخير الذي سيكون بالإمكان تطبيقه حسب الاتفاق النووي الأصلي، هو 18 تشرين الأول، إلا إذا تم الاتفاق على تمديده.
مرة أخرى، يطرح سؤال: هل تريد إيران فقط كسب المزيد من الوقت والتسويف في المفاوضات حول الرقابة والحصول على مزيد من التمديد قبل فرض العقوبات عليها؟ في هذه الأثناء، تحاول طهران لف نفسها بحزام أمان، روسي وصيني، يضمن لها أن تكون العقوبات إشارة ميتة بسبب التعاون مع حلفائها. ولكن حتى لو كانت إيران تنوي فتح قناة دبلوماسية مع إدارة ترامب من جديد، فقد بقيت أمامها عقبات لم يتم إيجاد حل لها حتى الآن: إيران تصمم على حقها في تخصيب اليورانيوم في أراضيها، وتطالب بضمانات أمريكية بأن لا تتم مهاجمتها ما دامت العملية الدبلوماسية مستمرة. هذه طلبات رفضها ترامب. وبعد انتهاء موعد الإنذار النهائي الذي وضعه أمام القيادة في إيران، شن هجوماً على المنشآت النووية.
لكن بعد الهجوم الإسرائيلي في قطر، الذي -حسب رد غاضب من ترامب لأنه تم خلافاً لموقفه، فإن الدرس الإيراني هو أنه حتى لو وافق الرئيس الأمريكي على ضمان ألا تتم مهاجمة إيران، فسيظهر هذا الوعد بأنه بدون أسنان من غير تعهد إسرائيلي مشابه. هذا ليس استنتاج إيران فقط، بل استنتاج جميع دول المنطقة. عندما تطلب إيران ضمانات أمريكية، فإن افتراضها الاستراتيجي هي وجيرانها العرب يستند إلى رؤية التي تقول بأن الولايات المتحدة هي الدولة العظمى الوحيدة التي يمكنها ضمان أمن المنطقة، ومنع حرب والدفاع عن حلفائها. هذه الرؤية موجودة في الشراكة التي “تدفع” فيها دول الخليج مقابل أمنها بواسطة مشتريات عسكرية أمريكية واستثمارات بتريليونات الدولارات في الاقتصاد الأمريكي، ووقوف سياسي موحد إلى جانب “الغرب”، الذي يشمل منع المنافسة من روسيا والصين؛ واعتبار إيران تهديداً إقليمياً ودولياً؛ ورأياً موحداً حول تعريف الإرهاب والتوقيع على اتفاقات سلام وتطبيع مع إسرائيل كجزء من اتفاقات إبراهيم التي هي ثمرة حلم الرئيس ترامب.
في ولاية ترامب الأولى، كان من يؤيدون هذه الرؤية يطمحون إلى إقامة حلف دفاع إقليمي، أمريكي – عربي، الذي كان يمكن لإسرائيل أن تكون شريكة فيه. لذلك، وأعادت إيران حساب مسارها الاستراتيجي. لقد اعتمدت إيران على روسيا والصين، اللتين وقعت معهما على اتفاقات تعاون بعيدة المدى، التي وعدت ولم تنفذ، باستثمار مئات مليارات الدولارات. في الوقت نفسه، بدأت إيران في تقرير سياسة “صفر مشكلات مع الجيران العرب”. استئناف العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات في 2022، بعد سنة من ذلك مع السعودية، إلى جانب علاقات وثيقة ومستقرة مع قطر، شريكتها في أكبر حقل للغاز في العالم في الخليج الفارسي. كل ذلك استند إلى افتراض أن نفوذ هذه الدول لدى واشنطن قد يكون بمثابة درع حماية لإيران من الهجمات الأمريكية والإسرائيلية.
في إطار هذه السياسة، جندت إيران عدداً من جيرانها، من بينها سلطنة عمان وقطر والإمارات، ومن وراء الكواليس السعودية أيضاً، كوسيطة بينها وبين الولايات المتحدة في الاتفاق النووي. وهكذا أوجدت منظومة من الدول العربية “ذات المصالح”، التي حتى لو لم تكن حليفة حقيقية فإنها شكلت أداة ضغط قد توازن تأثير إسرائيل على واشنطن في القضية النووية. لذلك، ليس صدفة أن دولة عربية، مصر، وليس النمسا أو إيطاليا، هي التي تم “اختيرت” لتستضيف في هذا الأسبوع التوقيع على اتفاق استئناف الرقابة في المنشآت النووية.
جهود إيران لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع القاهرة، التي قطعت في 1979 بسبب التوقيع على اتفاق كامب ديفيد، مستمرة منذ ثلاث سنوات، ولكن بدون نجاح كبير. مصر غير مستعجلة لإعطاء إيران الشرعية العربية، والحساب التاريخي لها مع إيران هو أطول ومؤلم أكثر من الحساب بين السعودية وإيران، وبالتأكيد الحساب بين إيران والإمارات. بشكل عام، مصر “دولة بطيئة”، لا تسارع إلى استئناف العلاقات مع دول تعتبرها معادية. لقد كانت آخر دولة استأنفت العلاقات مع تركيا. وكانت الأخيرة التي تبنت قطر بعد حصار طويل، ولم تفتح بعد قلبها لسوريا في ظل نظام الشرع.
أيضاً العلاقات مع إيران جرت بـ “وتيرة مصرية”. ولكن في السنة الماضية، حدثت انعطافة تمثلت بالزيارة المغطاة إعلامياً التي قام بها عراقجي للقاهرة في بداية حزيران، قبل عشرة أيام على بدء الهجوم الأمريكي – الإسرائيلي في إيران. في المؤتمر الصحافي الذي عقده وزراء خارجية إيران ومصر قال عراقجي في نهاية اللقاء: “لم تعد هناك عقبات بين الدولتين. العلاقات الدبلوماسية بيننا ممكنة الآن أكثر من أي وقت مضى. الثقة المتبادلة بين مصر وإيران لم تكن قائمة من قبل”. من المبكر تحديد هل ومتى ستستأنف العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين. ولكن بتوطيد العلاقات بينهما، ثمة رسالة واضحة للولايات المتحدة وإسرائيل: الرؤية الاستراتيجية التقليدية القائمة على محور عربي مؤيد لأمريكا شريطة أن يكون مناهضاً لإيران، رؤية تقتضي إعادة فحص.
الهجوم الإسرائيلي على قطر قد يدفع قدماً بهذه الاستراتيجية، ويمنح إيران مكسباً سياسياً لم تكن تتوقعه. في الطريق، يمكنها أن تضعضع نسيج العلاقات بين الولايات المتحدة ودول المنطقة. بالنسبة لهذه الدول، تعاملت إسرائيل مع قطر فقط، وهي الدولة التي تعتبر بالنسبة للولايات المتحدة حليفة كبيرة ليست عضوة في الناتو، وكأنها إيران أو سوريا أو لبنان – “منطقة نيران” حرة يمكن مهاجمتها في أي وقت وبأي ذريعة. في رد السعودية، أبلغ بن سلمان قطر بأنه سيضع تحت تصرفها كل قدرات المملكة للدفاع عنها؛ وزيارة التضامن السريعة لحاكم أبو ظبي محمد بن زايد، إلى قطر، إلى جانب تلميح تهديدي على مستقبل اتفاق السلام مع إسرائيل؛ والمحادثة الداعمة بين الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان مع حاكم قطر – كل ذلك يخلق، على الأقل تصريحياً، تحالفاً تضامنياً، عربياً – إيرانياً. إيران تعتبر داخلياً عضواً متساوياً في المكانة، لأنها لم تعد الدولة الوحيدة التي تتعرض للهجوم في المنطقة.
“شراكة المصير” هذه لا تهدد بإقامة تحالف عسكري أو تحالف استراتيجي بين الدول العربية وإيران. مع ذلك، هي تشير إلى شرخ يتوسع في مكانة الولايات المتحدة في المنطقة. إذا كانت الدولة العظمى في العالم غير قادرة على ضمان سلامة حلفائها وتوفير المقابل السياسي لـ “خدماتها واستثماراتها”، فعليها رسم استراتيجية دفاع جديدة. استراتيجية ستطلب من ترامب في أفضل الحالات، تبني سياسة ناجعة على الفور تضمن وقف التهديد الإسرائيلي، وفي أسوأ الحالات يمكنها اعتبار إسرائيل دولة معادية تهدد الأمن القومي لكل دولة في المنطقة، وعندها سيتم استبدال المحور المناوئ لإيران بمحور مناوئ لإسرائيل.
إيران الرابح السياسي من هجوم إسرائيل لقطر

تعليقات الزوار
لا تعليقات