رغم كل الارتكابات الدموية الإسرائيلية المذهلة، ما زالت دولة الاحتلال قادرة على إدهاشنا بقدرتها على ارتكاب المزيد. هذه المرة ضد أحد حلفائها، فرنسا التي لم يُعرف عنها، خلال العام الأخير، سوى تأييد المواقف الإسرائيلية، وإن حدث أن حاولت التغريد خارج السرب قليلاً، غالباً ما سيُسارع قصر الأليزيه إلى تصويب المسار بتصريح أو بيان يرقّع خلف الرئيس.
لقد استطاع فيديو الكنيسة الأيونية في القدس، عندما شاهدنا رجال الأمن الإسرائيليين يعنّفون دركياً فرنسياً حارساً للكنيسة، ويطرحونه أرضاً، قبل اعتقاله على مرأى كاميرات العالم، فيما الرجل يصرخ ويكرر: «لا تلمسني، لا تلمسني، لا تلمسني»، أن يحزننا حقاً، ويثير الغضب إزاء قصدية الدولة العبرية في ارتكاب هذه الإهانة ضد فرنسا، والتي جاءت، على ما يبدو، كردّ فعل على المواقف الفرنسية المتصاعدة أخيراً، وأدّت إلى مسلسل تصريحات وردود أفعال بين الرئيس الفرنسي ماكرون ورئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، جاء آخرها إثر استنكار ماكرون الهجوم الإسرائيلي على الأمم المتحدة ومنظماتها الأممية (أونروا، يونيفيل) مذكراً تل أبيب بأنهم مدينون بوجودهم لموافقة أممية.
لكن الرئيس ماكرون، بعدها على الفور، راح يتهم بعض وزرائه بالافتقار إلى الاحترافية، وبنشر معلومات كاذبة، منتقداً وسائل الإعلام بشأن طريقة نقلها لتعليقات «تَردّدَ أنه أدلى بها عن إسرائيل خلال اجتماع لمجلس الوزراء». وتحدثت الأخبار، حينذاك، عن «مؤشر على إحباط ماكرون السياسي»، الذي اضُطر إلى توبيخ الصحفيين، «بسبب تعليقات أوردوها تشير إلى أنه شكّك في قيام إسرائيل».
هكذا راح الرئيس الفرنسي يردّد: «لقد وقفت فرنسا دائماً إلى جانب إسرائيل. وجود إسرائيل وأمنها أمران لا يمكن المساس بهما بالنسبة لفرنسا والفرنسيين»، وهو كاد يقول: «الله يلعن الشيطان».
وفي حادثة أخرى كان ماكرون قد انتَقَدَ، ضمنياً، رئيسَ الوزراء الإسرائيلي، غداة وَصْف الأخير الهجمات على غزة ولبنان بأنها «حرب الحضارة»، في مقابلة مع تلفزيون «سي نيوز» الفرنسي اليميني. ومن دون ذكر اسم نتنياهو، قال ماكرون: «في الآونة الأخيرة، كثر الحديث عن حرب الحضارات التي يجب الدفاع عنها، لكنني أعتقد أن الدفاع عن الحضارة لا يكون عبر زرع الهمجية»، تصريح كان من شأنه أن يرفع حدة التوتّر، قبل أن تعمل ماكينة الدبلوماسية الفرنسية على تخفيفها من جديد.
حرصت التقارير الواردة من القدس على تسمية ما حدث بـ «إشكال دبلوماسي»، ذلك أنه جاء مع زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو للمجمع الديني، ودخول مسلحين من الشرطة الإسرائيلية بدون إذن إلى موقع ديني في القدس تعود ملكيته وإدارته لباريس.
لكن المتابعين لمسلسل الجدل عرفوا أن ما يصوّره الفيديو أكبر من إشكال، إنه محاولة لتوجيه إهانة معلنة، هي جزء أيضاً من المسلسل، فبالتأكيد كان رجال الشرطة الإسرائيلية يعرفون الأصول الدبلوماسية المتبعة في المكان، وكان من السهل، لو أرادوا، التعامل مع الدرك الفرنسي الحامي للمجمع الديني بلطف أكبر، باحترام يليق بدولة كبرى حليفة.
وفي وقت راح الدم يغلي في عروقنا، نحن مشاهدي حدث الكنيسة عن بُعد، عبر الفيديو، مرجّحين غضبةً فرنسية استثنائية من أجل الكرامة، راح بعض الإعلام الفرنسي يهوّن الأمر إلى «إشكال»، بل إن هناك من راح يكرر ويذكّر بأن المجمع الكنسي ليس له تماماً حصانة السفارة الفرنسية، وأقصى الغضب الفرنسي وصل إلى «وعْد» باستدعاء السفير الإسرائيلي في باريس خلال أيام.
أما المتغنّون بالكرامة فاستذكروا مسلسل الغضب الفرنسي؛ من حادثة الرئيس الراحل جاك شيراك، عندما انتفض في الموقع ذاته، في وجوه الشرطة الإسرائيليين، في أول زيارة له إلى هناك كرئيس، قائلاً: «لا أريد أشخاصًا مسلّحين على الأراضي الفرنسية… سأنتظر! سأنتظر».
وها قد مرّت أيام على «الإشكال الدبلوماسي» المهين من دون أن تنقلب الدنيا، لا سُحب سفير، ولا انقطعت العلاقات، وعلى العكس، فقد قرر الرئيس ماكرون الانضمام إلى مشجعي كرة قدم في ملعب فرنسا الدولي، يوم الخميس، حينما تواجه فرنسا إسرائيل (سنرى سيشجع مَن مِن الفريقين)، وذلك «في بادرة تضامن، عقب أعمال عنف تعرّضَ لها مشجعون إسرائيليون في أمستردام، قبل أيام».
كما ذكر مكتب ماكرون أن مشارَكةَ الرئيس هدفها توجيه «رسالة أخوة وتضامن، عقب الأفعال المعادية للسامية التي لا يمكن التسامح معها والتي أعقبت المباراة في أمستردام».
هذا مع أن حقيقة ما جرى في أمستردام باتت واضحة للجميع، حتى للصحافة الإسرائيلية، بعضها على الأقل، وأن مشجعي الفريق الإسرائيلي بادروا إلى تمزيق الأعلام الفلسطينية في شوارع وساحات العاصمة الهولندية، وإلى هتافات تشتم وتنادي بالموت للعرب، والفيديوهات التي تثبت ذلك تملأ فضاء الميديا الاجتماعية.
وفوق حضور ماكرون المتضامن، أعلن قائد شرطة باريس منع رفع العلم الفلسطيني في المباراة، وأنه لن يُسمح إلا برفع العلمين الفرنسي والإسرائيلي. وكان يمكن الاكتفاء بواجب الإجراءات الأمنية المشددة، وهي ضرورة على أي حال.
لقد نُسي أمر الكنيسة في الحال إذاً، وليس علينا انتظار أيّ احتجاج.
لكن أكثر ما يحزننا، نحن الذين لا نتمنى لفرنسا، بكل ما تمثله، أن تهان على هذا النحو، اكتشاف أن دولة كبرى ليس بوسعها ردّ إهانة بهذا الحجم، ما الذي ننتظره تجاه الحرب والتوحش في غزة والضفة ولبنان!
راشد عيسى
تعليقات الزوار
لا تعليقات