كان في نيتي استكمال الحوار الدائر بيني وبين الدكتور محي الدين عميمور، والبحث في سؤال: “ما السبيل لتحويل “أسوار” الحدود الحقة والموروثة إلى “جسور” تعاون وتفاهم ووئام…؟” لأن السؤال يحتاج إلى جواب.. و الجواب يحتاج إلى مزيد من الدراسة و البحث و التدقيق..و الجميل في هذا النقاش اني شخصيا إستفدت من النقاش معرفيا.. فقد اضطررت للعودة إلى الخلف، والاطلاع على كتب من مصادر ومشارب فكرية وأيديولوجية متباينة.. ومن المؤكد ان الحوار مع شخصية سياسية وقامة وطنية جزائرية ومغاربية وعربية، يتطلب التسلح بالمعرفة الكافية فالرجل حقا موسوعة تاريخية.. وعلى الرغم من دفاعه عن وجهة نظر بلده الجزائر الشقيقة و العزيزة على قلوبنا بلدا و شعبا، لكن في دفاعه يتحلى بالموضوعية والعقلانية…
وليس ذلك بغريب على رجل تربى في مدرسة المقاومة المغاربية وتربى على يد الكبار، فقد عاصر مكتب المغرب العربي بالقاهرة وعايش “عبد الكريم الخطابي” و “علال الفاسي” و “بومدين” و “بورقيبة” و “الإبراهيمي” وغيرهم من رواد حركة التحرير والمقاومة.. فالرجل تكلم بموضوعية شديدة عن الشعب المغربي ودوره السامق والمتميز في دعم المقاومة الجزائرية بل وصف هذا الشعب ب “الفحل” وفي اليوم الكبير تجده بجانبك”، لذلك فلا غرابة أن نجد في الجزائر شارعين يحملان اسم “محمد الخامس “و” عبد الكريم الخطابي”..
لكن للأسف المرحلة الراهنة تتميز بسيادة قيادات سياسية ” ذات نزعة ” صبيانية” وتغلب عليها ” المراهقة السياسية”.. وعندما نقارن خلافات اليوم بالأمس نجد، ان الخلافات والاختلافات كانت دائمة موجودة، منذ حقبة مقاومة المحتل، لكن الخلاف بين اليوم والأمس، بالأمس كانت خلافات كبار وبين “الرجال” يختلفون في الرأي لكن يستطيعون إدارة خلافاتهم.. أما الوضع اليوم فلا يحتاج لمزيد شرح او تفصيل…
شكرا للدكتور عميمور و لكل القراء الافاضل الذين ساهموا من خلال سمو اخلاقهم و انضباطهم بأدبيات الحوار البناء في توضيح بعض مواطن الخلاف بأسلوب سلس بعيدا عن التشنج و التطرف و الشوفينية ضيقة الافق…وسأحاول من جانبي الاستمرار في تفكيك صخرة الخلاف و كسرها بالتدريج، خاصة و أن مقالتنا تحظى بقبول واسع في البلدين الشقيقين و على النخبة المثقفة أن تقوم بدورها في دفع الشعوب دفعا باتجاه تقرير مصيرها و الخروج من دورة ” البحث عن الخبز” فالحلول الفردية إنتهى زمنها و لا مستقبل لنا جميعا دون وحدة وتكتل، ان على المستوى المحلي أو الوطني أو المغاربي….و كما يقال بداية الغيث قطرة، و كل الإنجازات السياسية أو الاقتصادية أو الفكرية الكبرى بدأت بفكرة. شخصيا اومن ان الاتحاد المغاربي المخرج الامن من دورة الأزمات التي نعيشها شعوب المنطقة المغاربية…وتحقيق التنمية لا يتحقق دون بيئة محلية وإقليمية داعمة…
لكن ليسمح لي القراء بتأجيل هذا النقاش مؤقتا، و كما يقول المناطقة “المناسبة شرط”، و المناسبة حرق المصحف الكريم بالسويد، فقد قام المدعو “راسموس بالودان”، زعيم حزب “الخط المتشدد” الدنماركي اليميني المتطرف، يوم الأحد 22 يناير 2023 بحرق نسخة من القرآن قرب السفارة التركية في ستوكهولم، وسط حماية أمنية مشددة وخلف حواجز معدنية نصبتها الشرطة التي منعت اقتراب أي أحد منه أثناء ارتكابه العمل الاستفزازي…وقال بالودان في كلمة مطولة “إذا لم نكن مقتنعين بأهمية حرية التعبير، فيجب أن نعيش في مكان آخر”…و من جانبي أدين هذا السلوك العنصري و اللأخلاقي و الذي لا صلة له بحرية الرأي أو التعبير.. والواقع أن هذا السلوك ليس بالجديد أو الفريد فهو حادث يتكرر في عدة بلدان غربية وأصبح “موضة” العصر والوصفة السحرية لإستقطاب أصوات الناخبين والطريق الأسهل للشهرة والانتشار.. فالإساءة للإسلام والنبي محمد عليه الصلاة والسلام أو زوجاته أو صحابته أو سنته أو القران الكريم أصبح امر جد متكرر، ويندرج في إطار الحرب الإعلامية المفتوحة منذ أزيد من 14 قرن على الإسلام و النبي محمد عليه الصلاة و السلام…
لكن زاوية المعالجة لمثل هذه الظواهر ، و خاصة فيما يتصل بحرق و تدنيس القران الكريم، يجب أن يختلف كليا عن أسلوب التنديد و الاستنكار أو الرد بالمثل أي “إساءة بإساءة” أو الاقدام على حرق ” الإنجيل ” أو ” الثوراة” و هدم الكنائس و البيع، و إنما أسلوب الرد و الدفاع الفعلي عن الإسلام و مقدساته ، ينبغي ان تكون بتمثل و استحضار روح و قيم كتاب الله تعالى في مختلف مناحي الحياة العامة سياسة و اقتصادا و تقافة و سلوكا، و البحث في سر خلود كتاب الله تعالى و حفظه من التحريف رغم كيد الكائدين منذ لحظة النزول على سيدنا محمد عليه الصلاة و السلام..
فالهجوم على القران الكريم ونبي الإسلام ليس وليد اللحظة الراهنة، بل بدأ الهجوم منذ لحظة النزول، وقد اتهم النبي عليه الصلاة والسلام بالكاهن و الشاعر و الكاذب، و أن من يوحي له بالقران لسان أعجمي، بل ذهب البعض إلى اعتبار أن ورقة بن نوفل كاتب القران الكريم، و الطامة الكبرى أن هذه الرواية تتردد على لسان من يتسمون بأسماء محمد و أحمد و عبد الله …
و مانراه من عداء للإسلام و للقران الكريم و للنبي محمد فقد تنبأ به منذ اللحظة الأولى، الحكيم ” ورقة بن نوفل ” و الذي يوصف في الموسوعة العالمية ب”الحكيم و المعلم و القاضي و الحنيف الموحد “و قد ورد ذكره في أكثر من مؤلف عند المؤرخين المسلمين و نقل عنهم غير المسلمين و قد ورد في كتب السيرة النبوية ذكره، وفي صحيح مسلم ورد خبر ” ذهاب السيدة خديجة والنبى محمد له فقالت له خديجة: أي عم! اسمع من ابن أخيك. قال ورقة بن نوفل: يا ابن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رآه. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. يا ليتني فيها جذعا. يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك. قال رسول الله “أَوَمُخْرِجِيَّ هم؟” قال ورقة: نعم. لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عُوْدِيَ. وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.»
فقد تنبأ ” ورقة بن نوفل بهذا الأذى الذي سيتعرض له نبي الإسلام و رسالة الإسلام في حياته و مماته، وبداية الأذى نسب القران الكريم لورقة بن نوفل و في رواية أخرى إلى محمد عليه الصلاة و السلام، و نفي أنه وحي منزل من الله تعالى و الغاية من كلا الروايتين قطع كتاب الله تعالى عن مصدره الحقيقي و الفعلي و نسبته إلى مصدر بشري ، قد يعتريه النقص و الخطأ و الهوى..
و بالتالي فالنموذج الحضاري للمسلمين يكمن أساسا في مصدره الرباني، فإذا كانت صلته بالسماء قوية و لم تمسها أيادي العبث و التحريف و التزييف ، فإن عين الله تعالى ترعى هذا النموذج و تؤيده بالشواهد و الحجج و الرجال و الإمكانات و المقدرات
و الواقع أن الاعتداء على مقدسات الإسلام نابع من ضعفنا ، و إهمالنا لكتاب الله و سنة نبيه المصطفى في إدارة شؤون دنيانا و تعطيل أحكام الإسلام و شرائعه و علاجاته الربانية التي تشمل الاقتصاد و السياسة و العلاقات بين الأمم..
فحال الأمة اليوم يعطي صورة سلبية عن الإسلام، وهذا الوضع نتاج لعوامل داخلية وخارجية، و بنظرنا العوامل الداخلية أكثر أهمية وأكبر تأثيرا في صناعة حاضرنا و مستقبلنا، فلا ينبغي أن نحمل الغرب كل مساوئنا و نقاط ضعفنا، فنحن كمسلمين مسؤولون جميعا عن تردي أحوال الأمة، فالفساد و الحكم الإستبدادي ، و التخلف العلمي و التقني و الحضاري هو نتاج لسلوكنا السلبي و صمتنا ، و إيماننا بالمقولة التي نقلها القرأن الكريم عن قوم موسى عليه السلام ” {قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة : 24]…
فأغلبية المسلمين لهم موقف سلبي أناني مما يحدث، فكل فرد مُسْتكفي بما يتحصل عليه من مكاسب ومغانم، و إن كان فتاتا، فالمصالح و النظرة ضيقة الأفق سبب رئيس في عجز الأمة و تخلفها و بالتالي هوانها و تكالب الأمم عليها…
فالموقف السلبي ضد تفشي الظلم و الاستبداد و انعدام المساواة و الفقر، و الإبتعاد عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أسس لهذا الوضع المرضي المزمن، فأفضلية الأمة و خيريتها، ليست نتاج لنظرة عنصرية او إثنية و إنما محددها الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر قال تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران : 110]..
فما يحدث في بلداننا من ظلم و انتهاك لحقوق المستضعفين ، يفوق بأضعاف ممارسات الغرب ضد المسلمين، فبلادنا موطن للظلم و التفقير و التجويع و التجهيل الممنهج، لا ننكر أن ذلك يتم بدعم من القوى العظمى ، التي لا تتورع في تأمين الحماية للحكام الفاسدين المستبدين، لكن مع ذلك فإننا نتحمل المسؤولية في إستمرار الأوضاع الفاسدة فالشعوب إذا أرادت فعلت…قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد : 11]
والتغيير في هذه الأمة لن يتحقق إلا بعودتها إلى النهج القويم وأخدها بالأسباب الدنيوية مع التزامها بتعاليم الشرع الحكيم، و الهجمة على الإسلام من الشرق و الغرب و محاولات تشويه صورته، هو إدراك لقوة هذا الدين، فتفشي الإسلامفوبيا هو نتاج للتوسع الأفقي و العمودي لهذا الدين في مختلف بقاع الأرض، فأغلب من يعتنقون الإسلام في أروبا و أمريكا و أسيا هم من الشباب و من العقول المتعلمة المأثرة في بلدانها…
المسؤولية على عاتق العرب فهم مادة الإسلام ونواته الصلبة، فصلاح العرب هو صلاح لحال الأمة الإسلامية قاطبة، بل صلاح للبشرية، وصلاح العرب لن يتم إلا بالعودة إلى منهج الإسلام، فهذا الدين هو الذي جعل للعرب وجودا حضاريا وتاريخيا، فبه خرجوا من رعي الإبل حفاة عراة، إلى قيادة الأمم بالخير والعدل ونشر نور الإسلام الذي أخرج شعوبا وأقواما وأمما من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وذلك غاية الحرية وقمة التحرر…والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
دكتور طارق ليساوي
تعليقات الزوار
لا تعليقات