صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يقوم بجولة أفريقية باستعداد باريس فتح الأرشيف العسكري الخاص بما وصفه “اللحظات المؤلمة” في تاريخ الكاميرون، في إشارة إلى جرائم الجيش الفرنسي. ويأتي هذا بعد قبوله فتح أرشيف الجزائر. وهو ما يدعو الى التساؤل، هل بدأت فرنسا الاستعداد لفتح جرائم الاستعمار كمقدمة لمصالحة مع الأفارقة؟.
وبدأ ماكرون جولة أفريقية تمتد من الإثنين إلى الخميس، وتشمل كلا من الكاميرون وبنين وغينيا بيساو، وتأتي في وقت تمر فيه مصالح فرنسا في مستعمراتها السابقة بتحديات كبيرة أغلبها ناتج عن رغبة بعض الدول الرهان على شركاء جدد بدل باريس، ثم المنافسة الاقتصادية والسياسية ومؤخرا العسكرية من طرف الصين وروسيا. ويعرض ماكرون الاستثمارات والمساعدات المالية ثم إعادة انتشار القوات العسكرية الفرنسية لتلبية المطالب الأمنية للدول الراغبة في محاربة الإرهاب في منطقة الساحل.
غير أن التطور اللافت هو استعداد فرنسا، وفق تصريحات ماكرون الثلاثاء، فتح ملف الاستعمار الفرنسي لمعرفة الجرائم التي وقعت في المستعمرات الفرنسية خاصة خلال دخول الاستعمار أو إبان مقاومة الشعوب للحصول على الاستقلال.
وأوضح دبلوماسي فرنسي، وفق الوكالة الفرنسية، تكملة لتصريحات الرئيس أن “إتاحة الوصول إلى المحفوظات العسكرية والدبلوماسية سيسمح للمؤرخين بإكمال عملهم في الكاميرون، وبعد ذلك يمكن اتخاذ إجراءات سياسية”.
وقال في هذا الصدد إن أرشيف الحكم الاستعماري الفرنسي الخاص بالكاميرون سيفتح “بالكامل”، طالبا من المؤرخين تسليط الضوء على “اللحظات المؤلمة” في تلك الحقبة. وطالب الرئيس من مؤرخي فرنسا والكاميرون العمل بشكل مشترك للتحقيق في أحداث الماضي وتحديد المسؤوليات. ويعد الحديث عن تحديد المسؤوليات جديدا في الخطاب الفرنسي بعدما كان يقتصر الحديث سابقا فقط على تقديم اعتذار.
وعلاقة بالكاميرون، يشهد هذا البلد دينامية نقاش مستمرة خلال السنتين الأخيرتين حول دور فرنسا في جرائم الماضي، وتأسست جمعيات ولجان وتبنت الأحزاب السياسية هذه المطالب. وفي هذا الصدد، يقول بيديمو كوه عضو اللجنة الأفريقية من أجل استقلال جديد والديمقراطية حسب الجريدة الرقمية الكاميرونية “أكتياليتي كاميرون” هذا الأربعاء “لدينا نزاع تاريخي مع فرنسا، ولم يظهر النزاع مع وصول ماكرون إلى السلطة، وننتهز الفرصة (الزيارة) لإيقاظ الكاميرونيين بشأن المشكل مع فرنسا والذي يتجلى في إبراز جرائم فرنسا وطرحها على الطاولة وتسويتها نهائيا إذا كنا نريد علاقات سليمة مع باريس”.
وكانت الكاميرون مستعمرة ألمانية حتى سنة 1918، وبعد هزيمتها أوكلت عصبة الأمم التي كانت قبل منظمة الأمم المتحدة، تسيير غالبية البلد الى فرنسا بينما الجزء الغربي المتاخم لنيجيريا كان تحت الوصاية البريطانية. وقبل الاستقلال سنة 1960، ارتكبت فرنسا مجازر في حق المقاومين وخاصة حزب “اتحاد شعوب الكاميرون” الذي تأسس نهاية الأربعينيات وتزعم المطالب بالاستقلال. ولقي عشرات الآلاف حتفهم تحت نيران القوات العسكرية الفرنسية، ومن أبرز الذين تم قتلهم زعيم المقاومة روبين أم نيوبي يوم 13 سبتمبر 1958. ويعد الأخير مرجعا للمطالب الكاميرونية الحالية ويحظى باهتمام كبير من الدارسين والمؤرخين حول مقاومة الاستعمار في أفريقيا.
وتعد الكاميرون الدولة الثانية التي دفعت بفرنسا الى فتح ملف جرائم الاستعمار، وكانت الدولة الأولى التي مارست ضغوطات لمدة سنوات طويلة هي الجزائر. وعمليا، قبلت فرنسا بفتح الملف الاستعماري الجزائري، وتعهد الرئيس ماكرون بهذه الخطوة، وكلف المؤرخ بنجامين ستورا بتحرير تقرير حول الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وانتهى بتوصيات. وكان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قد استقبل منذ يوم 6 يوليوز/تموز الجاري بنجامين ستورا، الأمر الذي يدل على تقارب في وجهات النظر لمعالجة هذا الملف الشائك.
ولم تبدأ خطوات فرنسا بالاعتراف بجرائمها الاستعمارية في القارة الأفريقية مع الرئيس الحالي، ماكرون، بل بدأت مع الرئيس السابق فرانسوا هولاند الذي اعترف سنة 2013 بالقبول المبدئي بفتح الملف الجزائري، ثم اتخذ الموقف نفسه سنة 2015 في الملف الكاميروني. ومن شأن السياسة الفرنسية الجديدة في علاقتها بالاستعمار خلال الماضي تشجيع دول أخرى أفريقية على تقديم الطلب نفسه، أي فتح الملفات. ويدور نقاش مماثل في دول أفريقية طرحت هذا الملف الشائك مثل أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو، بينما تتعامل دول أخرى بنوع من التحفظ مثل المغرب وتونس والسنغال، إذ يوجد نقاش وسط المجتمع المدني وبعض الهيئات السياسية دون دون أن تتبناه السلطات الحاكمة حتى الآن.
وتدرك فرنسا أن هذا الملف يشكل نقطة ضعف لها في العلاقات المستقبلية مع الدول الأفريقية، ويتطلب الوضع إيجاد حل له من أجل علاقات سليمة. في الوقت ذاته، تتهم فرنسا دولا منافسة لها في القارة الأفريقية بالوقوف وراء حملة سياسية وإعلامية معادية لباريس ومنها توظيف ملفات الاستعمار. وكان الرئيس الفرنسي ماكرون قد صرح يوم 20 نوفمبر 2020 “هناك استراتيجية عمل يقودها أحيانا القادة الأفارقة (مضادة لفرنسا)، ولكن بشكل خاص تتولاها قوى أجنبية مثل روسيا وتركيا، والتي تلعب على مشاعر الاستياء ما بعد الاستعمار. يجب ألا نكون ساذجين: فالعديد من أولئك الذين تعلو أصواتهم، والذين يصنعون مقاطع فيديو، والذين يتواجدون في وسائل الإعلام الناطقة بالفرنسية، تدفع لهم روسيا أو تركيا”.
وقبل بدء ماكرون جولته الأفريقية، قال السفير الفرنسي في بنين، مارك فيزي، وهي من ضمن الدول في الجولة أن روسيا تشن الحرب ضد فرنسا في القارة الأفريقية مستعملة مآسي الاستعمار.
ولهذا، تسارع باريس مجبرة على فتح ملفات الاستعمار الفرنسي في القارة السمراء قبل توظيفها من طرف دول منافسة مستغلة مشاعر الاستياء من هذا الاستعمار.
تعليقات الزوار
لا تعليقات