قال سوميت غانغولي، البرفسور في العلوم السياسية بجامعة أنديانا، ونيكولاس بلاريل، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة لايدن، إن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي “يحرق الجسر مع الشرق الأوسط” والسبب هي الإسلاموفوبيا. وقالا إن خطاب الكراهية والعنف الموجه ضد المسلمين في الهند زاد منذ وصول مودي وحزبه القومي بهارتيا جاناتا (بي جي بي) إلى السلطة عام 2014.
وفي الوقت الذي حث فيه المسؤولون الغربيون، بمن فيهم الولايات المتحدة، مودي وحزبه بالعودة إلى التشاركية، إلا أنهم لم يضغطوا على نيودلهي، فهي شريك اقتصادي وجيوسياسي في التنافس الأكبر مع الصين.
لكن المناخ المظلم من حكم الغالبية والتعصب أدى لتوبيخ دولي قوي للهند في شهر حزيران/يونيو. ولم يأت من الدول الغربية، ولكن من عدة دول عربية.
ففي أيار/مايو، قامت المتحدثة باسم بهاراتيا جاناتا (بي جي بي) نوبور شارما بإطلاق تصريحات مسيئة للرسول محمد. وزاد مسؤول آخر، وهو نافين جيندال من الهجوم بتصريحات مماثلة، بشكل أثار غضب المسلمين الهنود وقاد إلى تظاهرات، وحتى أعمال عنف، ولكنها أغضبت حكومات في الشرق الاوسط التي تقدمت بشكاوى رسمية إلى نيودلهي. ويهدد الخلاف الحالي بقلب الدبلوماسية البارعة التي مارسها مودي على مدى عقد وأدت لبناء علاقات ودية مع معظم دول الشرق الأوسط.
ومودي هو أول رئيس وزراء هندي يزور إيران وإسرائيل وقطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة في ولاية واحدة. وفي ظله عملت الهند على تأمين مصادر النفط والغاز من الشرق الأوسط، والمهمة لأمنه، والتأكد من رفاه حوالي تسعة ملايين هندي يعملون في دول الخليج. وقادت الدبلوماسية النشطة لتوسيع التعاون والاستثمار والعلاقات الأمنية مع دول مجلس التعاون الخليجي.
وتعتبر السعودية والإمارات العربية المتحدة من أكبر شركاء الهند التجاريين. وستزيد هذه العلاقات في أعقاب توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين الإمارات والهند، والمفاوضات الجارية لعلاقات أوسع مع بقية دول مجلس التعاون الخليجي.
وفي تباين مع بقية الحكومات الهندية السابقة، عمل مودي على الترويج للتعاون مع دول الخليج في المجالات المشتركة مثل الإرهاب والأمن البحري في منطقة المحيط الهندي. وكانت المصالح هذه متبادلة، حيث باتت السعودية والإمارات تتعاملان وبشكل متزايد مع الهند كسوق صاعد مهم لصادرات النفط والاستثمارات الأجنبية والفرص المشتركة والتعاون الأمني.
ويواجه هذا التعاون غير المسبوق خطرا من خلال اليد الطليقة التي منحها بي جي بي للإسلاموفوبيا في داخل الهند. وفي الماضي أعربت دول العالم الإسلامي عن مخاوفها بشأن التطورات السلبية المتعلقة بعدة تطورات تطال الأقلية المسلمة في الهند. وانتقدت في بعض الأحيان علانية الهند، مع أن هذا الكلام لم يؤد لتغيرات ملموسة في السياسة. إلا أن الحادث الأخير له طابع مختلف، فالتعليقات اللاذعة أو الصور الكاريكاتيرية التي تسخر من محمد ولدت ردود فعل قوية، وأحيانا عنيفة من عدة دول مسلمة. وأدت الحادثة هذه لردود فعل قوية في معظم الدول الإسلامية، بدرجة أجبرت نيودلهي على إدارة الأزمة، والتأكيد أنها “تولي أهمية عليا لاحترام الأديان” وربما لم تكن هذه التصريحات الدبلوماسية المهدئة كافية لمنع السياسة الداخلية الهندية الإشكالية من إحباط محاولاتها لتقوية العلاقات مع دول الخليج وبقية دول الشرق الأوسط.
وأدت تصريحات شارما بإيران والكويت وقطر لاستدعاء السفراء الهنود، وإصدار كل من السعودية والإمارات ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة التعاون الإسلامي بيانات شاجبة. وقادت هذه الردود الحكومة الهندية للتحرك، واتخذت تحركا في مدى 24 ساعة طردت فيه جيندال وعلقت عضوية شارما التي وصفت بأنها “عنصر هامشي” في الحزب. ويرى الباحثان إن تحرك بي جي بي السريع والحاسم كان مدهشا لعدة أسباب، منها أن مودي وقادة حزبه ترددوا في الماضي للتدخل والحد من الخطاب المعادي للإسلام. ففي عام 2019 وصف وزير الداخلية، أميت شاه، المسلمين من بنغلاديش بـ “النمل الابيض”، وفي عام 2020 اتهم أعضاء بي جي بي جماعة إسلامية بنشر كوفيد-19. وفي حزيران/يونيو ربط عضو في بي جي بي الفتح الإسلامي للهند بالهولوكوست، ولم تؤد تعليقات كهذه إلى شجب أو تحرك من الحزب. وتجاهل بي جي بي النقد من الحكومات الأجنبية حول اعتماد حكم الغالبية. وفي حزيران/يونيو رفض وزير الخارجية الهندي سوبرا ماينام جيشنكار قلق نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن بشأن مراعاة المناخ للأقليات الدينية.
إلا أن النقد من دول الشرق الأوسط هذه المرة جاء بمثابة “لدغة” لنيودلهي. وطالما شجبت الدول العربية المسلمة موجات من العنف الطائفي قبل وصول مودي إلى الحكم، لكن الفرق هذه المرة أن هناك الكثير على المحك.
فمنذ الاستقلال كانت الهند حريصة للتأكيد على التزامها بالعلمانية وتطمين الدول الإسلامية حول سلامة مسلميها الذين يبلغ عددهم 200 مليون نسمة، وهم يمثلون ثالث تجمع للمسلمين في العالم بعد أندونيسيا وباكستان. وكانت محاولات الهند في الستينات والسبعينات للتواصل مع دول الشرق الأوسط تهدف لمواجهة خطاب باكستان حول معاملة المسلمين الهنود، وتحديدا في سياق الشغب بين الهندوس والمسلمين في كوجرات عام 1969. وكانت الهند مهتمة في هذه الفترة بمعابر الملاحة البحرية، مثل مضيق هرمز وقناة السويس وتأمين احتياجاتها من الطاقة الضرورية لقطاعها الصناعي الواسع. وكيفت سياساتها لتأمين هذين الهدفين، الحفاظ على أمن المعابر البحرية وتأمين وصول النفط والطاقة لها.
وفي هذا السياق أرسلت عام 1969 وفدا إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، السابقة لمنظمة التعاون الإسلامي. واضطر الوفد الهندي للمغادرة بسبب المعارضة الباكستانية، ولم تحاول الهند أبدا الانضمام للمنظمة بعد ذلك. واتسمت سنوات الثمانينات والتسعينات بخلافات هندية- مسلمة من أحداث الشغب في ميروت عام 1986 والتمرد في كشمير، 1989 ثم تدمير الغوغاء الهندوس مسجد بابري المقام منذ قرون في أيوديا، 1992.
وعندها بدأت الدول الإسلامية بالتعبير عن قلقها حول سلامة مسلمي الهند، وزاد النقد لتصرفات الهند في كشمير منذ بداية التسعينات من القرن الماضي. وأثار تدمير مسجد بابري والعنف الطائفي في أنحاء البلاد قلق الدول المسلمة. وأصدر المؤتمر الإسلامي في اجتماعه بكراتشي عام 1993 بياناً ساوى فيه انتهاكات الهند لحقوق المسلمين في كشمير بالجرائم بالبوسنة والأراضي الفلسطينية المحتلة وجنوب أفريقيا. ودعا البيان للضغط على الهند كي تسمح للكشميريين ممارسة حق تقرير المصير. ومنح المؤتمر صفة مراقب لمؤتمر حريت، وهو تحالف من عدة أحزاب في كشمير. وأدى شجب منظمة المؤتمر الإسلامي وعداء العرب للهند لتشجيع الأخيرة على إعادة النظر بعلاقاتها مع إسرائيل. وساعدت عمليات التطبيع مع إسرائيل نيودلهي وتل أبيب على توطيد العلاقات الاقتصادية والدفاعية. وأصبحت إسرائيل، وخلال العقدين الماضيين أهم مزود للسلاح إلى الهند.
وفي أثناء الشغب بكوجرات عام 2002، عندما كان مودي الوزير الأكبر للولاية، وقتل فيها أكثر من 700 مسلم، تعرض مودي لنقد حاد من دول الشرق الأوسط. وفي ذلك الوقت لم يكن مودي شخصية معروفة على المسرح الدولي، ورغم الدموية التي رافقت الشغب إلا أن سفراء دول الخليج لم يطلبوا إيجازات من وزارة الشؤون الخارجية الهندية عن الأحداث.
وبحلول 2002 زاد تأثير الهند الدولي، ودخلت النادي النووي، وباتت مقصد المستثمرين من دول الشرق الأوسط التي لم تعد تنتقد علانية معاملة الهند لمسلميها. وعندما أصبح مودي رئيسا للوزراء عام 2014 بدأ بمحاولة تحسين العلاقات وجذب دول الخليج وعلى عدة مستويات. وقد بدأت هذه العملية في عهد سلفه موهان سينغ. وجاءت محاولات التوسع باتجاه الخليج لعدة أسباب، وجود حوالي 9 ملايين هندي بالمنطقة، وقد أسهمت تحويلاتهم عام 2019 بـ 40 مليار دولار في الاقتصاد الهندي، أي نسبة 65% من التحويلات السنوية وثلث الناتج المحلي العام. إضافة للتأكد من تدفق النفط الخليجي. فثلث ورادات الهند تأتي من دول مجلس التعاون الخليجي، وتعتبر قطر المزود الرئيسي للغاز الطبيعي لها. وإلى جانب النفط زادت العلاقات التجارية الثنائية مع دول الخليج إلى 154 مليار دولار في الفترة ما بين 2021-2022، مما يشكل 10.4% من صادرات الهند و 18% من اجمالي الاستيراد. وحاول مودي التعاون مع دول الخليج لملاحقة منظمات الجريمة المنظمة في الهند والجماعات الإرهابية من باكستان وكشمير ممن وجدت ملجأ آمنا في دول الخليج. وأدت المفاوضات العديدة خلال زيارات مودي المتكررة لأبو ظبي والرياض إلى ترحيل مطلوبين هنود وباكستانيين، والحد من غسل الأموال التي تقوم بها نفس الجماعات.
وكانت محاولات إصلاح العلاقات مع دول الخليج تنظيفاً لسمعته المشوهة بعد مذابح كوجرات عام 2002. وقام في الفترة ما بين 2015- 2019 بزيارات لإيران والبحرين والأردن والأراضي الفلسطينية وعمان وقطر والسعودية، ولجأ في زياراته هذه للفتات رمزية مثل زيارته لمسجد الشيخ زايد في أبو ظبي 2015، التي قصد منها أداء التحية لمؤسسة الدولة ولفتة تصالح للمجتمع المسلم في الهند. ومن المفارقة أن نائب الرئيس الهندي أم فينكيا نيدو كان في رحلة لتحسين صورة الهند في قطر عندما اندلعت الأزمة الأخيرة. ومن جهتهم رحب زعماء الخليج بالمبادرات الهندية وبدأوا في الفترة الماضية بتقوية العلاقات مع الهند لمخاوفهم من خروج امريكا وعدم ثقتهم بباكستان.
وكانت زيارة الملك عبد الله بن سعود إلى نيودلهي عام 2006 نقطة تحول في العلاقات السعودية- الهندية، وأسست لعلاقات قوية. وزادت السعودية والإمارات من استثماراتها في البنى التحتية الوطنية، وزادت من الصادرات غير النفطية ووسعت من الاستيراد الهندي الذي يتراوح من اللقاحات إلى الحبوب. وتعامل قادة الإمارات والسعودية، مثل الشيخ محمد بن زايد وولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع العلاقة مع الهند من جانب تعاقدي، ولم يهتما بالتحولات الداخلية للسياسة الهندية. كما وأعطت اتفاقيات إبراهيم دفعة لمودي حيث قوى من العلاقات مع إسرائيل وبعدة مجالات. وستشارك الهند في الشهر المقبل بقمة “أي تو يو تو” وتشارك فيها الولايات المتحدة والإمارات وإسرائيل.
واختار قادة الخليج، بناءً على براغماتية شرسة، الالتزام بالصمت تجاه سياسات لحكومة مودي خرقت حقوق المسلمين، بما فيها قانون المواطنة الذي حدد هوية الهند بناء على الدين، مما يهدد باسبتعاد ملايين المسلمين. إلا أن تصاعد كراهية الإسلام في ظل بي جي بي بدأ يثير قلق دول الخليج أكثر وأكثر. وهذا واضح من بيانات الشجب الصادرة عن السعودية والإمارات ومنظمة التعاون الإسلامي، ومن الدول التي استدعت سفراء الهند. وفي مواجهة الغضب على التصريحات المسيئة للرسول، حاولت وزارة الخارجية الهندية التأكيد على علمانية الهند، لكن الغضب الحالي لم يكن تعبيرا عن سياسات مضادة لمسلمي الهند، بقدر ما هو شجب للإساءة لرمز الإسلام، وهو ما أثار غضب النخب والرأي العام، ليس في الشرق الأوسط بل والعالم الإسلامي قاطبة. ووصفها مفتي عُمان بي جي بي بالوقاحة الفاحشة تجاه الإسلام و”الحرب”، ودعا لمقاطعة البضائع الهندية. ووجدت الدعوة صدى في دول الخليج وأجبرت حكومة الهند على التعامل مع التعليقات المسيئة.
وربما كانت حكومة مودي تأمل بعزل العلاقات الثنائية مع دول الخليج والشرق الأوسط عن السياسة المحلية، إلا أن هذا النهج ليس دائما، فعلى خلاف الوضع الذي لم تكن فيه علاقات الهند واسعة مع دول المنطقة، ولم تستثمر كثيراً في الروابط الاجتماعية- الاقتصادية، فمن الصعب الآن سيطرة الهند ودول الخليج على مواقف الرأي العام من هذه الموضوعات الحساسة. ولأن التعليقات الأخيرة جاءت من مسؤولين في الحزب، لا من مدنيين، فهي تجعل من مودي وحكومته مسؤولين عن تصاعد الإسلاموفوبيا.
وفي ظل الحرب الأوكرانية، تواجه الهند مصاعب في توفير المصادر وجذب الاستثمارات الخارجية وضغط من الشتات الهندي في الخليج الذين عبّروا عن قلقهم من التعليقات هذه وما تتعرض له حياتهم من مخاطر بسببها. وهناك عامل آخر يتعلق بالتوسع الصيني في الشرق الأوسط، ومن هنا، فإن تأكيد مودي على علمانية الهند لن يخفف من غضب دول الخليج والمنطقة. ويبدو أن نهج مودي في التركيز على المصالح الاقتصادية والأمنية والتقليل مما يحدث في الداخل فقد صلاحيته.
تعليقات الزوار
لا تعليقات