في تقييم ما حدث في 5 تشرين الثاني/نوفمبر يوم الانتخابات بالولايات المتحدة وتأكيد العودة الثانية لدونالد ترامب إلى الرئاسة مرة ثانية في 6 تشرين الثاني/نوفمبر يعثر الواحد على كم من التحليلات وكلها تضع اللوم على الديمقراطيين وأنهم ضيعوا فرصة تاريخية وانشغلوا بـ«الفرح» الذي دعا إليه رئيسهم السابق باراك أوباما ودعم النجوم مثل تيلور سويفت وبيونسي في وقت كانت فيه حركة ترامب «لنجعل أمريكا عظيمة مرة ثانية» أو «ماغا» تتجذر وعلى مدى السنين الأربع من حكم جو بايدن.
صحيح أن عناد الأخير كان سببا في هزيمة نائبته كامالا هاريس، فلم يكن أمامها سوى عدة أشهر، ولكنها لم تكن كافية كي يقتنع الأمريكيون بدعم امرأة من الأقليات العرقية لكي تكون أول رئيسة للولايات المتحدة.
فقد جربت هيلاري كلينتون الأمر من قبل. ولكنها فشلت. صحيح أنها شخصية انقسامية، لكونها تنتمي لعائلة كان فيها رئيس وهو بيل كلينتون، والأمريكيون لا يحبون أن تكون لديهم عائلات ملكية على طريقة آل كينيدي.
سوء
الفهم
وكما في الماضي أخطأ الحزب الديمقراطي في فهم التغيرات التي حدثت في المجتمع الأمريكي وأن قضايا الهوية والعرق لم تعد محددا في اختيارات الناخب الأمريكي، فالسود واللاتينو وهم تجمعات كبيرة اختاروا المرشح بناء على ما يمكن أن يقدمه لهم من مميزات اقتصادية.
وقد تجاوز الأمريكيون مرحلة ترامب الشيطان بل والمجرم المدان، فهو أول رئيس أمريكي سيدخل البيت الأبيض بسجل إجرامي. لكن ما لم يتعلمه نقاد ترامب أن القاعدة الانتخابية أو الحركة التي وصفها ترامب لم تعد تكثرت بعيوب مرشحها، فطالما وفر لهم الطعام وسيطر على التضخم وخفض من فواتير الكهرباء والوقود ومنع المهاجرين غير الشرعيين، فإنهم سينمحون أصواتهم له.
وفي النهاية كانت الانتخابات عن القضايا المحلية التي فشل بايدن في التصدي لها، وحاولت نائبته أن تقنع الأمريكيين أنها وجه التغيير. ومشكلة هاريس أو خطيئتها الكبرى أنها تعاملت مع الذين طالبوها بالابتعاد عن نهج رئيسها بفوقية وتجاهل. فالبنسبة للعرب والمسلمين الأمريكيين لم يكونوا مستعدين لانتخاب امرأة متورطة في الحرب الإبادية في غزة، ولهذا ابتعدوا عنها كما ابتعد اللاتينو والسود الذين لم يكونوا يريدون تكرارا لسياسات بايدن أو العودة إلى السنوات الأربع في عهده.
مرشحة
بدون تعليق
وكما قال مصطفى بيومي في «الغارديان» (6/11/2024) ركز الديمقراطيون جهودهم على استرضاء الجمهوريين المتذمرين من ترامب، مثل ليز تشيني المسؤول والدها ديك تشيني عن غزو العراق وقتل مئات الآلاف فيه بدلا من الحوار مع الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي أو السماح لفلسطيني أمريكي بالتحدث أمام المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي في آب/أغسطس. وفي الوقت نفسه، استمرت القنابل الأمريكية بالمطر على الفلسطينيين بدون أن تقول هاريس أي كلمة. ولم يكن لديها ما تقوله لدرجة أن موقع «أكسيوس» وصفها بأنها مرشحة «بدون تعليق». وفي الوقت الذي أدار فيه الجمهوريون حملتهم على شعار «حزب الكراهية» أدار الديمقراطيون حملتهم بـ«حزب بدون قضية تقريبا» وبين الكراهية ولا شيء، فازت الكراهية. ومن هنا فهزيمتهم درس مهم لهم لأن يتوقفوا في قادم الأيام عن محاولات تغيير الحزب الجمهوري واسترضاء أصحاب الملايين من الموالين لإسرائيل والدفاع بدلا من ذلك عن العدالة المتساوية والطبقة العاملة وحقوق الإنسان.
عاد للانتقام
وقالت أروى مهداوي في «الغارديان» (6/11/2024) إن ترامب عاد وبانتقام. و«رحلة ترامب الانتقام ستجلب المذابح في الداخل والخارج. وكان نتنياهو يعمل ما يريد في ظل إدارة بايدن، لكننا نعرف أنه كان يتوقع فوز ترامب. ومنذ عام والفلسطينيون في حالة حداد. ومن المرجح ضم الضفة الغربية وسيزداد البؤس في غزة إلى مستوى جديد لا يطاق». وتساءلت «كيف وصلنا إلى هنا؟ كيف انتخب الأمريكيون رجلا معروفا بملاحقاته الجنسية للنساء وافتراسهن الواحدة بعد الأخرى؟ سيتم تشريح هذا الوضع لأسابيع قادمة، وفي الحد الأدنى كان الأمريكيون يريدون التغيير ولكن هاريس ضيعت الفرصة، فلم تتخل عن خط بايدن ولم يكن الأمريكيون راغبين بتكرار سنواته مرة أخرى».
الانقسام العظيم
وكما قالت «الغارديان» (6/11/2024) في افتتاحيتها فالانتخابات الأمريكية جرت وسط انقسام عميق حول المشروع الأمريكي وماهية القيم المشتركة بين الأمريكيين، فلم يعد هناك إجماع على القضايا الملحة. والمشكلة في حملة هاريس أنها أدارت حملة انتخابية وسط هذا الانقسام ولم تكن قادرة على إقناع النساء البيضاوات (52 في المئة صوتن لترامب) بأنها رمز التغيير ضد شوفينية ترامب. ومع ذلك فقد شجع التحيز ضد النساء الناخبين على رؤية ترامب بأنه الأكثر فعالية كزعيم، وفضل معظم الناخبين له الاقتصاد على أي قضية، وكانوا يعرفون أنهم يمنحون أصواتهم لمستبد هدد بترحيل المهاجرين بشكل جماعي والانتقام ضد معارضيه السياسيين والصحافيين، ووصفه مسؤول طاقمه السابق بأنه «فاشي في العمق».
وقد قدم خطاب انتصاره صورة عن الحاشية التي ستكون معه وتؤثر عليه، فبالإضافة لعائلته، هناك الأوليغارش إيلون ماسك.
تغيير العالم
وإذا كانت عودته ستغير المسار الأمريكي فإنها أيضا ستترك آثارها على الساحة العالمية. وقد سارع قادة العالم لتهنئته، على خلاف ترددهم عندما فاز بشكل مفاجئ عام 2016 وكان أول المهنئين هو بنيامين نتنياهو الذي أكد على أهمية العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية في ظل عودة ترامب التاريخية. وكما قالت صحيفة «وول ستريت جورنال» (6/11/2024) فقد ضرب نتنياهو عصفورين بحجر واحد، حيث عزل وزير دفاعه يواف غالانت المقرب من إدارة بايدن واحتفل بفوز ترامب، كل هذا في يوم واحد.
وقد لا يحصل نتنياهو على ما يريد من ترامب. صحيح أن العلاقات بين الإثنين تحسنت في صيف هذا العام، لكن ترامب لم ينس لنتنياهو تهنئته لبايدن على فوزه في انتخابات عام 2020 كما وضغط على اليهود الأمريكيين للتصويت له، وهددهم بأنهم سيتحملون المسؤولية لو خسر الانتخابات. ويعرف عن ترامب أنه لا يحب المغامرة أو الحروب الدائمة. وفيما يتعلق بالعلاقة الأمريكية-الإسرائيلية في مرحلة ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر فستكون أكثر تعقيدا، وخاصة لأنها باتت تعني إنفاق المليارات لدعم العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة ولبنان ولوجود قوات أمريكية خاصة تلاحق قادة حماس وجنود يشرفون على تشغيل نظام ثاد الدفاعي الصاروخي. ويعتقد جوليان بورغر في «الغارديان» (6/11/2024) أن نتنياهو قد يخيب أمله من الرئيس الجديد.
ومهما كانت سياسات ترامب المقبلة، وهي قيد الإعداد، فلم يعرف بعد من سيتولى الحقائب الأساسية، الخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي، وهي المسؤولة عن توجيه السياسة الخارجية وقرارات الحرب، إلا أن فوزه يمثل نهاية لمرحلة كانت فيها الولايات المتحدة الطرف المهيمن على السياسة العالمية وخاصة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وفي هذا السياق قال ديفيد سانغر في صحيفة «نيويورك تايمز» (6/11/2024) إن فوز ترامب يعني نهاية محاولة بايدن إصلاح ما خلفته فترة ترامب الأولى، والعودة إلى المسار الطبيعي في علاقات أمريكا مع حلفائها. فلم يخف الرئيس المنتخب رغبته في القيام بتدمير النظام العالمي.
وإذا أوفى ترامب بوعود حملته الانتخابية، فسيتم استبدال عصر التجارة الحرة إلى حد كبير بالرسوم الجمركية التي يصفها ترامب بأنها «أجمل كلمة» في اللغة الإنكليزية، دون الإشارة إلى حقيقة أن هذا النهج ساهم في الكساد العظيم بحقة الثلاثينيات من القرن الماضي. ويعرف عن ترامب تحفظه تجاه الناتو ودوله وخاصة الدول التي لا تسهم في ميزانيته. وخلال الحملة الرئاسية، قال ترامب إنه «سيشجع» روسيا «على فعل كل ما تريده» بأعضاء الناتو الذين لم يساهموا بما يكفي من مال.
وأهم من ذلك فمهمة أمريكا التي أعلن عنها جورج دبليو بوش، قبل ما يقرب من عقدين والقائمة دعم نمو الحركات والمؤسسات الديمقراطية في كل دولة وثقافة، قد انتهت رسميا الآن. كما يعتبر فوز ترامب نهاية لما أعلن عنه بايدن قبل أربع سنوات وفي أول اجتماع له مع أقرب حلفاء الولايات المتحدة «أمريكا عادت». وعليه فعودة ترامب التاريخية تعني أن خطابه «أمريكا أولا» سيحدد مسار العالم خلال السنوات المقبلة والذي سيعتمد على مزيج من خطابه الانعزالي ورغبته الغريزية في أن يكون اللاعب المركزي في عصره.
وسنعرف توجه السياسة الخارجية من تحرك ترامب في أوكرانيا. فقد ألمح الرئيس المنتخب وزميله في بطاقة السباق، نائبه المنتخب جيمس ديفيد فانس، أكثر من مرة بأنهما سيوقفان عشرات المليارات من الدولارات من المساعدات الأمريكية. وأصر ترامب على أنه لو كانت هناك «صفقة» فقط على الأرض، لما حدثت الحرب أبدا.
ومهما يكن، فسيكتشف ترامب وفانس انهما يعملان في عالم متغير وأكثر تعقيدا. ولم ينطق ترامب خلال الحملة الانتخابية بكلمة واحدة عن أكبر تغيير جيوسياسي في السنوات القليلة الماضية: وهي الشراكة المتنامية بين روسيا والصين. وفي هذا السياق كتب بيتر فيفر، الأستاذ بجامعة ديوك والذي خدم في مجلس الأمن القومي أثناء إدارة بوش، مقالا في مجلة «فورين أفيرز» (6/11/2024) قال فيه: «إن جوهر نهج ترامب في السياسة الخارجية ــ المعاملاتية أو التعاقدية العارية ــ لا يزال دون تغيير. ولكن السياق الذي سيحاول فيه تنفيذ شكله الغريب من إبرام الصفقات تغير بشكل كبير: فالعالم اليوم مكان أكثر خطورة مما كان عليه خلال ولايته الأولى». وقال فيفر إن حملة ترامب كانت مليئة «بالواقعية السحرية: مجموعة من التفاخر الخيالي والوصفات السطحية التي لا تعكس أي فهم حقيقي للتهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة». وفي مواجهة هذه القضايا، هناك أمر واحد واضح: لن يكون عام 2025 تكرارا لعام 2017.
فعندما وصل ترامب لأول مرة إلى البيت الأبيض، وهو غير متأكد من كيفية التعامل مع العالم من حوله، لجأ إلى مساعدين، كانوا جميعا رجالا تقريبا، والذين صبوا كما يقول فيفر في «قالب واحد». كان هناك ريكس تيلرسون، الرئيس التنفيذي السابق لشركة إكسون موبيل، وجيمس ماتيس، الجنرال السابق الذي اجتذب ترامب لأن قواته أطلقت عليه لقب «الكلب المسعور». (كان ماتيس يكره هذا اللقب) وكان هناك أربعة مستشارين للأمن القومي، أولهم استمر أقل من شهر، وكان معظم هؤلاء يأملون في احتواء وتوجيه ترامب وحاولوا تعديل اندفاعه وتحويله إلى سياسة متماسكة. وقد فشلوا، وتم فصل معظمهم، وهاجموه خلال الحملة الأخيرة باعتباره غير لائق للعودة إلى المنصب.
وفي هذه المرة، أوضح ترامب أنه لا ينوي توظيف شخصيات من المؤسسة قد تجادله أو تبطئ من مطالبه. إنه يريد موالين يخدمون أجندته، وسيتعلمون كيفية التعامل مع رئيس يعتقد أن أعظم قوته تكمن في إقناع الحلفاء والخصوم على حد سواء بأنه قادر على الضرب في أي اتجاه. وعلى العموم سيكون فحص السياسة الخارجية لترامب في غزة وأوكرانيا. ويعتقد ديفيد هيرست في «ميدل إيست آي» (7/11/2024) أن ترامب أمامه خيار في المسألة الفلسطينية إما مواصلة محوها أو وقف الحرب وبالتالي القضاء على الطموحات الدينية الصهيونية التي باتت تعلم السياسة في إسرائيل. وفي عهده الأول تحولت واشنطن إلى ملعب لدعاة اليمين الديني المتطرف، إما كصناع سياسة أو متبرعين له. وبلا شك سيحاول اليمين المتطرف استخدام ترامب كما استخدمه في المرة الأولى لضم ثلثي الضفة الغربية واستمرار الوجود العسكري في غزة وجنوب لبنان. لكن مضي ترامب مع هذه الخطط يعني توريط الولايات المتحدة في حروب إقليمية لا تتوافق مع الرؤية الحمائية والانعزالية لترامب وفريقه من جماعة ماغا. ومهما يكن فولاية ترامب لن تكون إلا استمرارا لولاية بايدن، والحقيقة أن ميراث الرئيس الحالي كما يقول إسحاق غوثيير في «نيويوركر» (6/11/2024) هي عودة ترامب الثانية، فقد رفض الاستماع إلى أصوات التقدميين في حزبه من أن دعمه للإبادة وبأموال دافعي الضريبة الأمريكيين لن يكون في صالحه ولن يؤدي إلا لعودة شكل من الحكم الاستبدادي في أمريكا. في النهاية سنرى أن فريق بايدن الذي سهل الإبادة في غزة سيحاول تبييض صفحته، ولكن بعد فوات الأوان.
تعليقات الزوار
لا تعليقات