هذا هو الاقتراح الذي أكاد أقدمه للسلطات العليا في البلد – من دون الالتفات إلى ابتسامة القارئ وهو يطالع ما أكتب – والبلد على وقع انتخابات رئاسية يتبعها في العادة الإعلان عن حكومة جديدة.. يتعلق الأمر بتعيين وزير على رأس وزارة كاملة الصلاحيات ـ لا بأس أن يتم البدء بوزارة – مهمتها الوحيدة طول أيام السنة تكريم الجزائريين، الذين يطالبون يوميا بإلحاح شديد بتكريمهم والاحتفال بهم و»بمنجزاتهم العظيمة» تقول المعاينة اليومية أن أعدادهم في تزايد مطرد، يأتي على رأسهم، بعض الفنانين والكتاب والصحافيين وأساتذة الجامعات، قبل أن تتوسع الظاهرة لتشمل مواطنين كثرا من مختلف الأوساط، يطالبون بحقهم في التكريم الذي لم يعد المجهود الرسمي المبذول من قبل الكثير من المؤسسات، قادرا على تلبيته، رغم ارتفاع منسوبه هذه الأيام في علاقة واضحة بالحملة الانتخابية وزيادة الطفرة المالية للبلد.
ارتفاع منسوب طلب التكريم عند الجزائريين من الجنسين، الذي يمكن تفسيره بعدة مستويات، منها ما هو متعلق بالفرد، ومنها ما يحيل إلى المجتمع. الفرد الذي تخبرنا المعاينة اليومية أنه يعيش حالة هشاشة نفسية كبيرة، تجعله دائم الطلب على كل ما قد يساعده على تجاوزها، عن طريق أي شكل من أشكال التكريم – الاعتراف التي يطالب بها من دون خجل، عيني عينك، كحق من حقوق المواطنة المغيبة في البلد. بالطبع المقصود هنا هو ذلك التكريم الرسمي الذي يحضره الإعلام ـ بالطبع التلفزيون، في مجتمع صاحب ثقافة سمعية ـ بصرية، يكون مصدر فخر أمام أبناء الحي، الأولاد وأم الأولاد، خاصة إذا ارتبط الأمر بإصدار كتاب أو رواية، أو قصيدة، أو نهاية خدمة بُعيد التقاعد. تكريم لا يكلف في نهاية الأمر ميزانية الدولة الكثير من الأموال، بعد أن اقتصر على «كارتونة» تمنح للمعني وهو يأخذ صورة تذكارية مبتسما مع المسؤولين.
محطات تعطي شرعية كبيرة لطلب التكريم، الذي لم يعد يقتصر على المؤسسات المركزية للدولة كوزارة الثقافة ـ أخذ هذا التكريم حيزا كبيرا من برنامج المسؤول الأول في السنوات الأخيرة، على حساب برامج ومشاريع المدى المتوسط والطويل – بعد أن توسع القيام به ليشمل البلديات والمراكز الثقافية البلدية، وحتى بعض أبناء الجهة والقرية، وقد يتدهور الأمر ليصل إلى صفحات الفيسبوك، التي تخصص داخلها بعض الصحافيين في الترويج لطلبات التكريم هذه التي تقدم على المباشر لصاحب القرار، أصبح من الشائع أن ترتبط بطلب خدمة اجتماعية عاجلة، بعد مرض أو فاقة، في غياب تكفل رسمي ونقابي، كما هو الحال في دول أخرى. يكون مقدمة في الغالب للإعلان عن وفاة المعني، بعد حين، لتأخر التلفزيون العمومي في الوصول إليه والتسجيل معه، قبيل الإعلان عن مغادرة هذه الدنيا الفانية. بالطبع لا يقتصر الأمر على هذه الجوانب الفردية التي اكتفينا فيها بهذه الهشاشة النفسية، التي يعاني منها الكثير، فالأمر كذلك يتعلق بأبعاد أكثر سوسيولوجية، نقتصر فيها على ما له علاقة بالمدينة التي تحولت للعيش فيها أغلبية الجزائريين، من أبناء الريف في وقت قياسي. مدينة تخلو من فضاءات اللقاء والتعارف، في مجتمع لا يعرف فيه الناس بعضهم بعضا، بعد ابتعادهم عن قراهم وجهاتهم، ما يجعل طلب التكريم ـ الاعتراف يزداد إلحاحا. فشلت الفضاءات المهنية في تلبيته لخلوها من حياة ثقافية علمية وتنافسية باللقاءات التي تفترضها، كما هو حال الجامعة، التي افرغت من محتواها الثقافي والعلمي لصالح رؤية بيروقراطية صارمة حولتها إلى قلعة مسيجة من كل الجهات. يجب أن لا يتخيل القارئ أن وجود مثل هذه الوزارة للرد على طلبات التكريم الكثيرة، لا تعترضه الكثير من المطًبات، التي يمكن أن يسقط فيها تسيير هذه المؤسسة، كما يحصل عادة في البلد. كالطابع الجهوي الذي يمكن أن يرتبط بها لتتحول عمليات التكريم بقدرة قادر إلى تكريم أبناء وبنات الجهة. المطًب اللغوي والجيلي، يمكن أن يكون بالمرصاد هنا كذلك، أمام هذه المؤسسة المكلفة رسميا بتكريم الجزائريين والجزائريات نظرا للطابع الشللي، الذي تعاني منه الحياة الثقافية والسياسية في الجزائر، التي يتحول فيها كل عمل رسمي إلى ترضيات وخدمات تقدم إلى أبناء لغة وتيار بعينه، على حساب التنوع الذي تعيشه الجزائر، نتيجة الانقسامية اللغوية التي تعاني منها النخب تقليديا في الجزائر، تبنتها مؤسسات الدولة في ما بعد، رغم التقلص الذي عرفته هذه الظاهرة مع الأجيال الصغيرة، في السنوات الأخيرة. تكريم لم يعد من المشين طلبه من مؤسسات «قمعية» تتفاخر به الكثير من الصحافيات والصحافيين وكأنه إنجاز مهني خارق، من دون أدني خجل ولا فهم للفروق النوعية بين المؤسسات، من دون التفات لأي معايير أخلاقية المفروض انها حاضرة بقوة لدى المهنة وأصحابها.
طلب تكريم عكس، في الكثير من الأحيان ما أصاب الكثير من الجزائريين من تدهور أخلاقي وقيمي، كما عبّر عن نفسه بأبشع الصور عند أكلة الكاشير ورافعي الكادر، الذين لم يعد في مقدور الرئيس الجديد ثنيهم عنه – إذا افترضنا صدق المسعى ـ وهو يطالبهم بالتقليص من منسوب التزلف عند الحديث والفعل. لكنهم لا يفعلون، نتيجة التنشئة الاجتماعية -السياسية التي عاشوا في ظلها لسنوات، وهم تحت روع هذا السؤال- الهاجس. من يضمن لي توقف الجميع عن «الشيتة « في الوقت نفسه؟ حتى لا أكون وحدي في حالة تسلل. أدفع ثمن نيتي، بل غبائي!
تزلف وصل إلى مستويات أصبحت خطرا على النظام السياسي نفسه، كما يظهر في وسائل الإعلام التي أصبحت تخرج في الصباح بعنوان رئيسي واحد تقريبا، لم تعد تجد من يطالعها أو يستمع إليها، كما يظهر في بلاتوهات التلفزيونات العامة والخاصة – الأمر سيان ـ التي يتبارى فيها بعض أساتذة الجامعات فيمن يتزلف أكثر ـ مقياس ذكر اسم الرئيس، يمكن أن يكون مؤشرا مهما للقياس- بعد منعهم من استعمال لفظ «فخامة الرئيس» الذي لم يعد مستحبا إلى حين. وسائل إعلام بمستوى تسيير بدائي لم تعد قادرة على الدفاع عن البلد وسياسته الخارجية، كما يظهر في السنوات الأخيرة وهي تعيش حالة تحرش من القريب والبعيد، ما يفرض على النظام التفكير في إيجاد بدائل لا أتمنى أن تكون على شكل عودة إلى تجنيد عناوين صحافية تصدر في الخارج للدفاع عن سياسية النظام، كما كان يفعل نظام بومدين ومن بعده الشاذلي – وهو يغلق أفواه الصحافيين في الداخل ويفتح دفتر شيكات سوناطراك في الخارج، على شكل إشهار سخي بالعملة الصعبة، استفاد منه الكثير من العناوين. اختفت بمجرد توقف التدفق المالي.
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لا تعليقات