بدا الرئيسان الجزائري عبد المجيد تبون والفرنسي إيمانويل ماكرون، في حالة انسجام تام خلال اللقاء الذي جمعهما بمدينة باري الإيطالية، على هامش قمة الدول الصناعية السبع في العالم. ويأتي هذا اللقاء الأول منذ نحو سنتين، في سياق مشحون في فرنسا مع الصعود اللافت لليمين المتطرف الذي يتبنى مواقف عدائية اتجاه الجزائر، تهدد بتوتير العلاقة بين البلدين في حال وصوله إلى الحكم.
وقد أظهرت الصور التي نشرتها الرئاسة الجزائرية، بعد وصول ماكرون إلى مقر إقامة الرئيس الجزائري في ماسيريا سان فرانشيسكو بمدينة باري، وجود تقارب وود بين الرجلين اللذين تبادلا الحديث مشيا على الأقدام في الحديقة، وهو ما يشير وفق مراقبين إلى وجود تفاهم بين الرئيسين، في وقت باتت الجزائر تفرّق بين مواقف بعض الطبقة السياسية العدائية وبين سياسة ماكرون غير المتوافقة مع هذا الخط.
وعلى الرغم من أهمية الاجتماع ورمزيته، لم يتم تسريب أي معلومات حول محتوى المحادثات بين رئيسي الدولتين، علما أن آخر لقاء بينها كان في القاهرة خلال الدورة السابعة والعشرين لندوة تغير المناخ (كوب 27) في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، وهو اللقاء الذي تلته أزمة بين البلدين عقب مغادرة الناشطة السياسية أميرة بوراوي الجزائر نحو فرنسا بطريقة غير قانونية بداية سنة 2023.
وعاد التواصل بعد ذلك هاتفيا بين الرئيسين، حيث أجريت عدة محادثات كان آخرها في 11 آذار/ مارس الماضي، حيث تمت مناقشة الزيارة الرسمية لعبد المجيد تبون إلى باريس التي تم تأجيلها عدة مرات، واتفقا على أن تكون بين نهاية أيلول/ سبتمبر وبداية تشرين الأول/ أكتوبر المقبل.
وتأتي هذه المحادثات بين الرئيسين، في ظل استدعاء متكرر للجزائر في الساحة السياسية الفرنسية، خاصة من جانب اليمين المتطرف الذي يتخذ من العلاقات مع الجزائر ومسائل الذاكرة والمهاجرين، سجلا انتخابيا يلعب على وتر تخويف الفرنسيين عبر إظهار الجزائر بمثابة تهديد لهم.
وفي وقت كانت الجزائر لا تعبأ كثيرا بمثل هذه المزايدات من تيار سياسي نشأ على أنقاض فكرة “الجزائر فرنسية”، أصبح الصعود اللافت لليمين المتطرف واقتراب وصوله للحكم بعد حلّ البرلمان الفرنسي مؤخرا، مصدر قلق، خاصة على المهاجرين الجزائريين الذين تقدر أعدادهم بالملايين في هذا البلد الأوروبي.
ومن مظاهر الاستفزاز الأخيرة، التغريدة “العنصرية” التي كتبها حزب الجمهوريين اليميني الفرنسي بقيادة زعيمه المتطرف إيريك سيوتي (طرد مؤخرا من الحزب)، والتي هاجم فيها الجزائر على خلفية مطالبتها باسترداد ممتلكاتها المنهوبة في فرنسا خلال الفترة الاستعمارية. وكتب هذا الحزب الذي يُصنّف ضمن دائرة اليمين التقليدي، منشورا على منصة “إكس”، تعليقا على نتائج الجولة الخامسة للجنة المشتركة للذاكرة الجزائرية الفرنسية التي طرحت فيها الجزائر قائمة بالممتلكات التي تطالب باستعادتها، جاء فيه: “رسالة خدمة للجزائر، يجب استعادة كل شيء الممتلكات والشر بما في ذلك المجرمين، المخالفين، المهاجرين غير الشرعيين، وأولئك الذين صدر بحقهم أوامر بالطرد”.
ووضع أسفل هذا النص الشعار الجزائري المعروف “وان تو ثري” مع صورة لطائرة في وضع الإقلاع، في إشارة لدعوة المهاجرين غير المرغوب فيهم من قبل هذا الحزب للمغادرة. كما أرفقت التغريدة بصورة للمناصرين الجزائريين وهم يحملون الأعلام الجزائرية ويحتفلون في شارع الشانزيلزيه أمام قوس النصر بباريس في إحدى المناسبات الكروية، وهي صورة يستعملها عادة اليمين المتطرف للإقناع بنظرياتهم حول “غزو المهاجرين” و”فقدان الهوية الفرنسية” و”وولاء المواطنين الفرنسيين من جنسية جزائرية لبلادهم الأم”.
وعموما زادت حدة الهجوم اليميني الفرنسي في السنوات الأخيرة، وزالت في كثير من المرات الفواصل التي تفرق بين اليمين التقليدي والمتطرف في ضرب العلاقة مع الجزائر. ويشترك “اليمينان” مثلا في المطالبة بإلغاء اتفاقية التنقل بين الجزائر وفرنسا لسنة 1968 التي تمنح بعض الامتيازات للجزائريين، وشنّت في ذلك حملة إعلامية وبرلمانية قوية للضغط على ماكرون. وبمناسبة الانتخابات التشريعية المبكرة بعد حل البرلماني الفرنسي، كان أول ما طرحه حزب التجمع الوطني الذي يقوده جوردان بارديلا ومارين لوبان، إلغاء هذه الاتفاقية في حال وصولهم لرئاسة الحكومة.
وتظهر في كل مرة مسائل يوظفها اليمين لشحن المجتمع الفرنسي المثقل بمشاكله الاجتماعية، مثل إثارة مسألة النشيد الوطني الجزائري بعد مرسوم يوسع استعماله بمقاطعه الكاملة، بما في ذلك المقطع الذي يتوعد فرنسا بالحساب. أو الاستمرار في الإنكار والمغالبة بخصوص جرائم بشعة ارتكبها الفرنسيون مثل التصويت ضد الاعتراف بمجازر17 أكتوبر في باريس والتي ألقي فيها الجزائريون المتظاهرون في نهر السين، واعتماد لغة تساوي الضحية بالجلاد في كل ما يتعلق بالتاريخ الاستعماري الفرنسي للجزائر.
ومن هذا المنطق، قد تشكل مواجهة اليمين المتطرف، قاسما مشتركا بين سلطتي البلدين للحفاظ على علاقة متوازنة بينهما تحفظ مصالح الجانبين. فالجزائر، كانت قد عبرّت على لسان وزير الخارجية أحمد عطاف عن رفضها للإقحام المتكرر لاسمها في الأغراض السياسية الداخلية في فرنسا، كما تصر في نفس الوقت على عدم التفريط في مسائل الذاكرة والماضي الاستعماري، في وقت باتت المعركة ضد اليمين المتطرف من طرف القوى الفرنسية المعتدلة نفسها مسألة وجودية، لأن وصولهم للحكم قد يغير تماما شكل الجمهورية الخامسة.
تعليقات الزوار
لا تعليقات