شرت مجلة “فورين أفيرز” مقالا للأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية (أمنستي انترناشونال)، اغنيس كالامار تساءلت فيه عما تعنيه الحرب في غزة لمستقبل حقوق الإنسان والقانون الدولي.
وتحت عنوان “غزة ونهاية النظام القائم على قواعد” قالت فيه “بعد أكثر من أربعة أشهر من النزاع، تميزت حملة الإنتقام الإسرائيلية من حماس بأشكال من جرائم الحرب واختراقات للقانون الدولي. وبررت إسرائيل حربها في غزة بأنها لمحو حماس، المسؤولة عن عمل فظيع في 7 تشرين الأول/أكتوبر” والذي قتل أكثر من ألف شخص وجرح العديدين وأدى إلى 240 رهينة”.
وردا على هذا هجرت إسرائيل الفلسطينيين قسرا وفرضت عليهم ظروفا تركت مئات الألاف منهم بدون الأساسيات الإنسانية وشنت هجمات عشوائية وغير متناسبة ومباشرة على المدنيين و”أهدافا مدنية”، مثل المدارس والمستشفيات. وقتل حوالي 28,000 فلسطينيا غالبيتهم من النساء والأطفال، وتم محو أجزاء كبيرة من غزة وتضررت أو دمرت خمس البنى التحتية والبيوت، مخلفة منطقة غير قابلة للعيش عليها. وفرضت إسرائيل حصارا طويلا حرمت فيه الفلسطينين من الطعام المناسب والمياه الصالحة للشرب والحصول على الإنترنت والملجأ والعناية الصحية، وهي أفعال تصل إلى حد العقاب الجماعي.
وهي تحتجز الغزيين في ظروف غير إنسانية ومهينة، واعترفت إسرائيل أن بعض من اعتقلتهم ماتوا. وفي الوقت نفسه زاد العنف من المستوطنين والجنود ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
وأكدت الكاتبة أن الولايات المتحدة والدول الغربية دعمت إسرائيل وزودتها بالمساعدات العسكرية ورفضت دعوات وقف إطلاق النار في مجلس الأمن وعلقت الدعم عن وكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة والتي تقدم الدعم للاجئين الفلسطينيين وعارضت دعوى جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، حتى مع تواصل الذبح.
وتقول كالامار إن التواطؤ الدبلوماسي اليوم في كارثة حقوق الإنسان والأزمة الإنسانية في غزة هو تتويج لسنوات من تآكل حكم القانون ونظام حقوق الإنسان العالمي. وبدأ الإنهيار بشكل جدي بعد هجمات 9/11 عندما مضت الولايات المتحدة في “حربها على الإرهاب”، وهي حملة أدت لتطبيع فكرة أن كل شيء مباح في ملاحقة “الإرهابيين”. واستعارت إسرائيل المبادئ والإستراتيجية والأساليب من تلك الحرب كي تنفذ حربها في غزة، وعملت هذا بدعم من الولايات المتحدة. ويبدو أن كل الدروس الأخلاقية الخطيرة من الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية نسيت تماما، ومعها ذهب المبدأ الجوهري القديم “لن يحدث مرة أخرى” ومفهومه العام وحقيقة أنه يحمينا جميعا أو لا يحمي أحدا.
وشددت كالامار أن الانهيار كان واضحا في تدمير غزة ورد الغرب عليه وهو يؤشر إلى نهاية النظام القائم على القواعد ويعلم مرحلة جديدة.
وألحت على أن مبدأ العالمية والذي ينص على أننا جميعا وبدون استثناء نستحق حقوقا إنسانية متساوية، مهما كنا وأين نعيش، يقع في قلب نظام حقوق الإنسان الدولي. وكان أساس ميثاق الإبادة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث أقر كلاهما عام 1948، وظلا على مدى السنين مصدرا للمحاسبة، بما في ذلك محكمة الجنايات الدولية التي أنشئت عام 2002. وساعد البناء القانوني هذا على التأكد من التزام الدول بحقوق الإنسان، كما أسهم في تحديد وتعريف حركة حقوق الإنسان عالميا وكان أساسا لإنجازات حقوق الإنسان في القرن العشرين. ولفتت إلى أنه ربما قال النقاد إن الدول لم تهتم بالعالمية هذه إلا من خلال الكلام، ذلك أن القرن العشرين حافل بالأمثلة عن عدم الإلتزام بالكرامة المتساوية.
وذكرت أن هناك العنف الذي استخدم ضد من حاولوا التصدي لآثار الإستعمار، الحرب في فيتنام، الإبادة في كمبوديا ورواندا والحرب التي تبعت انهيار يوغسلافيا وغير ذلك. وكل هذه الأمثلة عن نظام متجذر في عدم المساواة وليس مبدأ العالمية. ويمكن للواحد مجادلة ولأسباب حقيقية أن العالمية لم تطبق على الفلسطينيين، والذين كما عبر الناقد الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد كانوا ومنذ عام 1948 “ضحايا الضحايا ولاجئو اللاجئين”.
ومع ذلك، تؤكد الكاتب، فمصير العالمية يقع في يد من يقومون بخيانتها. فعوضا عن كونه مشروعا طموحا ودائما للبشرية وتقوم سلطته أولا وأخيرا على إعلانه ودفاعه المستمر، فقد واجه مبدأ العالمية وطوال القرن العشرين العديد من النكسات ومحاولات الدفاع عنه واستمراره.
وقد تغير هذا في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين ومع إطلاق العنان للحرب على الإرهاب بعد هجمات 9/11. وتم تبني عقيدة وأساليب “الحرب على الإرهاب” وخلال العشرين عاما الماضية وقلدتها الحكومات حول العالم.
ونشرت العقيدة لتوسيع مبدأ حق الدولة في الدفاع عن نفسها ونشر تدابير للملاحقة وبدون قيود لأشخاص أو سلطات تعتبر بالعرف الفضفاض “تهديدا إرهابيا”.
وعليه، تشدد كالامار، فالعدد الذي لا يصدق من المدنيين الذين قتلوا في غزة باسم الدفاع عن النفس ومواجهة الإرهاب هو التداعي المنطقي لهذه العقيدة أو الإطار والذي حرف، بل وفكك القانون الدولي ومعه مبدأ العالمية.
وتسببت الغارات الأمريكية على الصومال والعراق وسوريا وأفغانستان وباكستان بقتل أعداد لا تحصى من المدنيين. لكن الولايات المتحدة كانت تدعي أنها اتخذت كل الإجراءت الضرورية لحمايتهم. مع أنها لم تقدم أي دليل بشأن الطريقة التي فرقت فيها بين المدنيين والمقاتلين، ولماذا قتلت العديد منهم عندما قامت بالتمييز كما تدعي.
وأشارت الكاتبة أن الحكومات حول العالم، استخدمت وعلى مدى العشرين عاما الماضية، نفس الأساليب. فعندما قصفت روسيا المستشفيات والمدارس والبنى المدنية في سوريا زعمت أنها تضرب بنى الإرهاب. وارتكبت روسيا نفس الجرائم بعد غزوها أوكرانيا في 2022 بناء على مبرر مشكوك فيه وهو الدفاع عن النفس، مع أن الغزو اشتمل على تدمير البنى المدنية والترحيل القسري والتعذيب والعنف الجنسي. وبنفس السياق بررت الصين حملتها ضد المسلمين الإيغور بأنها “قتال ضد الإرهاب”.
وتعتقد كالامار أن قصف إسرائيل لغزة يتجذر في التاريخ وأعمق من الحرب المستمرة على الإرهاب، بما في ذلك تهجير حوالي 750,000 فلسطينيا عام 1948 أو ما عرفت بالنكبة. كما أنه متجذر بالتآكل الواضح في القرن الحادي والعشرين للقانون الدولي والذي لم يتم فيه احترام للقيود التي وضعت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والمشمولة في ميثاق الأمم المتحدة وقانون حقوق الإنسان الدولي وفي ميثاق الإبادة الذي استندت عليه دعوى جنوب أفريقيا.
وأشارت إلى أنه “بعد هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر شجبت الحكومات الغربية جرائم حماس وعبرت عن دعم غير مشروط لإسرائيل، وهو موقف مفهوم ورد متوقع على الرعب الذي حل بحليف مقرب. وكان عليها تحويل موقفها عندما بدا واضحا، من أن القصف الإسرائيلي قتل ألاف المدنيين. وكان على كل الدول وبخاصة ذات التأثير منها على إسرائيل شجب الأفعال غير القانونية الإسرائيلية والمطالبة بوقف فوري للنار مقابل تحرير الرهائن وبالمحاسبة على جرائم الحرب وغير ذلك من الانتهاكات التي ارتكبها الطرفان”. وأضافت أن هذا لم يحدث، ففي أول شهرين من الحرب، قللت إدارة جو بايدن من الخسارة البشرية في غزة وفشلت في شجب القصف الإسرائيلي المستمر والحصار المتواصل. ولم تعترف الإدارة بسياق النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني واحتلالا عمره 56 عاما، وصدقت بدلا من ذلك تأطير إسرائيل حربها في غزة ضمن مكافحة الإرهاب. ومع استمرار الحرب، دافعت إدارة بايدن عن تكتيكات إسرائيل وقلدت مثل الببغاء مزاعم إسرائيلية غير مثبتة وثبت كذبها لاحقا، كتلك التي اتهمت حماس بارتكاب مذابح. وشددت الكاتبة على أنه رغم رفع أمريكا صوتها بضرورة حماية المدنيين إلا أنها رفضت دعم الخطوات الرئيسية الكفيلة بحمايتهم. واستخدمت الفيتو في مجلس الأمن الدولي لمنع قرار يدعو لتوقف إنساني للحرب في غزة. وفي 22 كانون الأول/ديسمبر سمحت لممثلها الإمتناع عن التصويت عندما تبنى مجلس الأمن قرارا تصالحيا يدعو إلى “خطوات عاجلة والسماح مباشرة بمرور آمن وبدون تعويق لمنافذ إنسانية واسعة” إلى غزة. وبعد أيام من قرار محكمة العدل الدولية الذي طالب إسرائيل بمنع الإبادة، أعلنت الولايات المتحدة والدول الغربية عن تعليق الدعم لوكالة الأونروا التي توفر الدعم والإغاثة الإنسانية للاجئين في غزة. ولم يتجاهل القرار المخاطر الواضحة للإبادة بل وساهم في تسريعها وتكبيرها.
وقالت إنه يمكن للولايات المتحدة، كقوة عظمى، ممارسة التأثير على إسرائيل وتغيير الواقع على الأرض في غزة. وأكثر من هذا يمكن للولايات المتحدة منع حليف قريب له من مواصلة ارتكاب المذابح، لكنها اختارت عدم فعل هذا.
وذكرت أن كل أشكال الدعم للعدوان الإسرائيلي أدت لثمن باهظ على الغرب، حيث اعترف دبلوماسي من مجموعة الدول السبع “لقد خسرنا بالتأكيد المعركة على عالم الجنوب. وخسرنا كل العمل الذي قمنا به في عالم الجنوب [من أجل أوكرانيا] ولا تتحدث عن القواعد وانس النظام العالمي، فلن يستمعوا إليها مرة أخرى”.
وبحسبها سيكون هناك بالتأكيد إحصاء للأحداث في غزة التي كشفت عن عدم احترام للقانون الدولي، إلا أن الحرب هناك قد تعبر عن دعوة للعودة إلى ستار الختام. فالإبادة وخطورة الإنتهاكات التي ارتكبت والتبريرات الضعيفة التي قدمها قادة منتخبون في الديمقراطيات الغربية تعطي صورة عن نهاية مرحلة.
وبرأيها يبدو أن النظام القائم على القواعد والذي حكم الشؤون الدولية منذ الحرب العالمية الثانية في طريقه لمغادرة المشهد. ومن التداعيات للتخلي عن هذا النظام واضحة: عدم استقرار ومزيدا من العنف، كما وستؤدي نهاية النظام القائم على القواعد لغضب واسع داخل قطاعات المجتمع وفي كل أركان المعمورة، وباستثناء الذين سيحصدون ثمار تدمير النظام الدولي. وهناك طريق لمنع هذا السيناريو الأسوأ، من خلال وقف الحرب والإفراج عن الرهائن المدنيين والفلسطينيين الذين اعتقلوا ظلما ورفع الحصار عن غزة ويجب تطبيق القرارات الأولية لمحكمة العدل الدولية القاضية بمنع الإبادة في غزة. وأكدت كالامار أنه على إسرائيل وداعمتها الولايات المتحدة الإعتراف بأن هدف تدمير حماس قد جلب الدمار على السكان والبنى التحتية في القطاع، وهو ما لا يمكن تبريره بناء على القانون الدولي. وعلى المدعون في المحكمة الجنائية الدولية التحرك بحزم وإصدار تهم لجميع الأطراف في النزاع بارتكاب جرائم حرب.
وشددت على أنه لن تتم معالجة المظالم التاريخية ولا يمكن تحقيق سلام في الشرق وأبعد منه بدون عملية دولية شاملة تحدد وتفكك نظام التمييز العنصري الإسرائيلي ومنح الأمن وحقوق الحماية لكل السكان. ويمكن للذكريات المؤلمة والمظالم، القريبة والبعيدة المساعدة في إنقاذ الحياة اليوم، وكذا في مستقبل إسرائيل والمناطق الفلسطينية وأبعد.
وختمت بالقول إنه يجب البدء بالعمل حالا وسريعا، مع أن الوقت ينفذ، وإذا كان التاريخ يعيد نفسه كما يقال لنا دائما، فعلينا التذكر بأنه تم تحذيرنا، ففي وضع بات فيه القانون الدولي على سرير الموت وبدون بديل له، سوى المصالح الوطنية القاسية والجشع الكبير، فهناك فرص لاستثمار الغضب من الكثيرين المستعدين لإثارة الفوضى وعلى قاعدة دولية.
تعليقات الزوار
لا تعليقات