يجري الحديث عادة في أغلب الدول الديمقراطية والتي تحترم شعوبها، عن ظاهرة محاولة بعض القوى سياسية والمجتمعية، توظيف الأجهزة الأمنية لأغراض سياسية، هذا الأمر شائع في كثير من النظم الديمقراطية وهو محل استهجان ومكافحة من نخبها.
إلا أن الجزائر تحكمها قاعدة أخرى مغايرة تماما، وهي أن جهاز أمني واحد فقط، معروف شعبيا باسم (السرابس)، من يملك القدرة على التوظيف السياسي، للأحزاب والقضاء ومنظمات المجتمع المدني والاعلام ...إلخ، من أجل خلق وضعيات سياسية تخدم أجندته.
هذه الحالة الفريدة من نوعها في الجزائر، والتي تكونت بفعل ظروف تاريخية لتشكل النظام السياسي الجزائري بعد الاستقلال، هي الأصل في المعضلة الجزائرية وهي السبب الرئيسي في أزمتها المزمنة منذ 1962.
فمباشرة بعد استقلال الجزائر ، سيلعب جهاز المخابرات الذي اشتهر باسم المالغ (MALG) في زمن الثورة و عرفت عناصره باسم الملغاشين ، دورا محوريا في إنجاح انقلاب زمرة وجدة، و هي طغمة عسكرية بقيادة بومدين ، على الحكومة المدنية المؤقتة و الشرعية آنذاك ، و منذ ذلك التاريخ سيصبح هذا الجهاز الأمني ، هو الأكثر أهمية في أجهزة الدولة ، و سيحتل مكانة مركزية فيها ، و سيتحول بفضل بناء ضخم منظم و منسق و متقن و في إطار غموض شامل و سرية تامة و صمت مطبق ، و بعيدا عن أي رقابة مدنية و عن أي مساءلة قضائية و في إطار استقلالية تامة عن أي سلطة مدنية ، إلى بوليس سياسي حقيقي ، و إلى حزب سري حقيقي ، يملك السلطة الفعلية في البلاد .
لقد صرح الوزير السابق غزالي لجريدة (HUMANITE) الفرنسية عام 2012، أن هذا الجهاز الأمني في فترة حكم بومدين كان يضم 2 مليون فرد من العناصر الرسمية وغير الرسمية (متخفية)، مع العلم أن عدد سكان الجزائر آنذاك (1978) هو حوالي 18 م/ن أي أن هذا الجهاز الأمني لوحده كان يضم 11 % من شعب الجزائري في صفوفه، وإذا قارنا هذه النسبة بعدد سكان الجزائر اليوم الذي بلغ حوالي 45 م/ن، فإن عدد العناصر التابعة لهذا الجهاز اليوم، لا تقل عن 5 مليون فرد.
بفضل هذا البناء الضخم والسلطة المطلقة التي امتلكها، استطاع هذا الجهاز التمدد والتغلغل في كل مفاصل الدولة وفي كل القطاعات وفي كل المؤسسات وبين كل فئات الشعب، مكون دولة داخل دولة، عرفت باسم (الدولة العميقة).
مشكلة هذا الجهاز الأمني في الجزائر، هو انحرافه عن مهمته الأساسية، فجهاز المخابرات في أي دولة تحكمها سلطة شرعية وتخضع للقانون، هو حماية أمن البلاد ومؤسسات الدولة والمصالح الحيوية للشعب، أما في بلادنا، فمهمته الأساسية هي حماية النظام القائم وضمان بقاء سلطته واستمراره، والقمع بوحشية لأي معارضة ضده ولأي محاولة تغيير أو احتجاج.
لقد تمكن جهاز المخابرات في الجزائر، والذي تغير اسمه ولم تتغير حقيقته وطبيعته عبر فترات تاريخية مختلفة، كما يغير الثعبان جلده، SM، DGPS، DCSA، DRS، من السيطرة على المشهد السياسي منذ الاستقلال إلى اليوم، وهو يمارس هيمنة مطلقة على الحياة الاقتصادية، الثقافية، الاجتماعية للبلاد، ولا يتوان في استعمال كل الطرق والاستراتيجيات والوسائل القذرة، لقمع الحريات وانتهاك الحقوق الأساسية للجزائريين، منها على سبيل المثال لا الحصر:
- المراقبة والاختراق لوسائل الاعلام وللوسائط الاجتماعية وللنشطاء والمعارضين والمدافعين عن حقوق الانسان.
- البث والاشاعة عبر أجهزتها وعملائها، للدعاية المغرضة، والمعلومات المضللة، وأخبار لتشتيت الانتباه.
- استعمال العنف والتعذيب والترهيب من جهة، والرشوة والتلاعب من جهة أخرى، لإسكات أصوات المعارضين.
- تزوير الانتخابات والقيام بالانقلابات، اختراق الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، وانشاء كيانات سياسية واجتماعية وثقافية ودينية، وهمية مهمتها دعم توجهات السلطة.
- اعتقال النشطاء والمعارضين، وتلفيق التهم الزائفة لهم، وإخضاعهم للمحاكمات جائرة.
هذه الممارسات ، التي تمثل انتهاك واضح لمبادئ حقوق الانسان و حرياته الأساسية و لسيادة القانون ، وهي تحتل مكان جوهريا في بنية جهاز المخابرات الجزائري و طرق عمله ، هي السبب الرئيسي في أزمة الجزائر و في تخلفها و في عرقلة انتقالها نحو الديمقراطية و نحو دولة القانون ، و هي السبب الرئيسي في حالة الإحباط و اليأس الذي يعيشه المواطن ، و حالة الغضب و الغليان الشديد للشعب و الذي عبر عنه بشكل واضح خلال ثورة 22 فيفري 2019 ، حين وجه اتهامه مباشرة لأصل الأزمة و سببها الحقيقي من خلال شعار (les généraux à la poubelle) و شعار ( مخابرات إرهابية ).
رغم كل التضحيات التي قدمها الشعب الجزائري من أجل إحداث تغير في المنظومة السياسية الحاكمة واسترجاع سيادته على دولته وثروات بلاده، انطلاقا من أزمة 1962 ومرورا بأحداث الربيع البربري 1980 وأحداث 5 أكتوبر 1988 والعشرية السوداء في تسعينات والربيع الأسود 2001 وأخيرا بالثورة الشعبية 2019، إلا أن البوليس السياسي مازال يشكل عائق في وجه أي تغير.
معضلة الجزائر الحقيقية وأزمتها المزمنة، وعدم قدرتها على النهوض من حالة التخلف والانحطاط، سببها الرئيسي هو هذا الجاهز الأمني المخابراتي، الذي تحول إلى مجتمع سري مغلق، يملك سلطة مطلقة، إنه مافيا، بدون اسم وبدون وجه وبدون عنوان، إنه وحش مخيف، جعل الجميع أو جلهم في الجزائر يمتنع عن الانخراط أو مساندة أي مشروع معارضة حقيقية.
لابد من فهم أن هذا الجهاز هو آلة قتل حقيقية تكونت في ظروف حرب ، و نشأ عناصرها على أساليب KGB في الاغتيال و التعذيب و على أساليب DST في التلاعب و التآمر ، و أن القتل و التصفية الجسدية ، هو الطريقة الأساسية في تصفية خصومها ( خيثر ، كريم بلقاسم ، علي مسيلي ، بوضياف .....) ، آلة قتل لم ترحم حتى أتباعها و من ساندها ، (إعدام شعباني ، اغتيال خميستي ، سجن فرحات عباس و وضعه في الإقامة الجبرية .......) ، و خلال 62 سنة من الاستقلال ، طور هذا الجهاز خبرته و أداءه و وسائله ، لدرجة تمكنه من تحويل دولة بكل مؤسساتها و إمكانيتها في خدمة رؤوس و قادة هذا الجهاز الأمني ، و أصبح عرقلة حقيقية في وجه أي تغير أو إصلاح للدولة.
اليوم أصبح واضحا، أن اصلاح الوضع وتحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي، وانقاذ البلاد من حالة الإفلاس والإحباط، لن يمر دون مواجهة هذا الجهاز الذي تحول إلى وحش يخنق البلاد ويقمع الشعب، ودون القدرة على تفكيكه وإخضاعه لسلطة مدنية شرعية، وعكس ذلك، فإن المأساة مستمرة والانفجار قادم لا محالة.
تعليقات الزوار
لا تعليقات