تقلص طموحات الجزائريين في العقود الأخيرة، على أكثر من صعيد، إلى أدنى مستوياتها، هو الذي جعلهم يتعاملون مع هزيمة الفريق الوطني لكرة القدم ككارثة وطنية كبرى، يتأثر لها الصغير قبل الكبير، والمرأة قبل الرجل، في كل ربوع البلاد. لنكون أمام مشهد أقرب لحالة هستيريا جماعية، تكون قد ظهرت ملامحها السلبية على أداء الفريق الوطني بلاعبيه ومدربه، كما أكدته حالة التشنج المعروف بها منذ مدة، كما لاحظ ذلك مدرب الفريق الوطني الموريتاني، الذي فسّر انتصار فريقه المتواضع على الفريق الجزائري، بالهشاشة النفسية التي كان عليها أعضاء الفريق الجزائري، والضغط الرهيب الذي سلطه عليهم الجمهور والصحافة الوطنية التي تعكس أكثر من غيرها هذه الفوضى الفكرية التي يعيشها المجتمع الجزائري واضطراب أولوياته.
في مجتمع غاب فيه أي طموح جماعي جدي لدى المواطنين والسلطة القائمة، بل حتى النخب بمختلف مكوناتها، تحولت فيه انتصارات الفريق الوطني لكرة القدم إلى أكبر إنجاز ممكن، ينتظره الجميع، غير قادرين على وضع أهداف أخرى يلتف حولها المواطنون كأي مجتمع سوي، غير تدشين ملاعب تجاوزت مدة إنجازها العشرين سنة! بنتها شركات صينية، عبر ميزانيات هائلة، عرفت أشكال فساد لا تخطر على بال، كما أكدته حالة «رجل الأعمال» علي حداد، القابع في السجن. في وقت تم فيها الإجهاز على مؤسسات الإنجاز الوطنية، التي يتطلب تسييرها عقليات أخرى، غير متوفرة في الحالة الجزائرية، على الأقل في الوقت الحالي. وضع ساهمت السلطة القائمة بشكلها المعروف عنها منذ عقود، في تبنيه وتوفير كل ما يحتاجه من إمكانيات لاستمراره كنهج وحيد، ممكن أمام الجزائريين، المغلوبين على أمرهم، في بعض الأحيان والمتواطئين في أحيان أخرى.
فقد اكتشفت السلطة أهمية رياضة كرة القدم في مجتمع شاب لا يملك إمكانيات أخرى للترفيه، منعتها منه العقليات المحافظة والمنافقة، المسيطرة على الساحة الاجتماعية والثقافية في البلد، فمدّته بكل شروط الجريمة، المعتمدة أساسا على المال العمومي. ونخب فاسدة لتسيير هذه الحالة المرضية التي تعيشها الرياضة في الجزائر، التي يتحول المواطن في الغالب داخلها إلى مشاهد، ثرثار في المقاهي وليس ممارسا، كما هو حال الدول الأخرى التي انتجت تجارب رياضية ناجحة، المطلوب منها تحقيق نتائج سريعة على مستوى المنافسات الدولية والقارية، بالاعتماد على ما تجود به الفرق الفرنسية من كفاءات، من أبناء المهاجرين، تحول اصطيادهم إلى مهنة لدى البعض، حتى إن أدى الأمر إلى الضغط عليهم بأشكال مختلفة، أقلها قد يكون الابتزاز العاطفي، اعتمادا على الفكرة الوطنية التي ما زالت حاضرة عند أبناء هذه الأجيال الصغيرة. نوعية تسيير سهّلت دور هذا المسير الفاسد للشأن الرياضي، الذي لم يعد مطلوبا منه تسيير عقلاني للإمكانيات المتوفرة لديه، أو ضع تصورات على المدى الطويل والمتوسط، ليبقى المهم تحقيق إنجازات وقتيه تحتاجها كل مرة الأجندة السياسية الرسمية، التي توظف بنهم هذه الانتصارات الكسولة للفريق الوطني، حتى لو تطلب الأمر ضخ أموال طائلة على شكل أجور وعلاوات، وليس بناء هياكل ومؤسسات كما بينه الأجر الممنوح للناخب الوطني جمال بلماضي، وغيره من اللاعبين في الفرق الوطنية. ما جعل الرياضة الوطنية، بما فيها كرة القدم تشكو من غياب التكوين بشكل صارخ، وما يفترضه من بناء مؤسساتي، يعتمد على تصورات مستقبلية، بعد أن فهم هذا المسير الفاسد للشأن الرياضي، أن المهم النتيجة الآن وليس غدا، كما تقول كلمات الأغنية المشهورة. بما أن المصائب لا تأتي فرادى فقد استعان هذا المسير الفاسد بالإعلام الأفسد منه، الذي تعج به الساحة الإعلامية الوطنية، في تسيير الساحة الرياضية بجماهيرها التي تحولت لديها نتائج الفريق الوطني لكرة القدم إلى خبز يومي، يكفي أن نعرف كيف يتعامل معه التلفزيون العمومي لفهم الأدوار المنوطة به. فمقابلة الفريق الوطني هو البث الوحيد مع خطاب رئيس الجمهورية وقائد الأركان الذي لا يجرؤ التلفزيون على قطعه، عندما يكون على المباشر حتى عندما يصادف الأذان للصلاة، الذي ما زال التلفزيون الجزائري يصر على بثه خمس مرات في اليوم، في بلد يصفه أبناؤه بالقارة بأكثر من توقيت، لا ضرورة دينية له في وقت التكنولوجيات الحديثة والهواتف الذكية.
حالة رياضية بمسيريها الفاسدين وصحافتها الأفسد، تكاد تتسبب كل مرة في أزمات دبلوماسية للبلد مع الكثير من الدول القريبة والبعيدة، هو في غنى عنها في هذا الجو السياسي المكهرب الذي يعيشه على حدوده، كما بينته الأزمة الأخيرة مع دولة مالي.. لا يتورع فيها صحافيو التلفزيون العمومي كأخف طيش ممكن، عن تذكيرنا كل مرة بأن فريقنا الوطني يلعب في «أدغال افريقيا» في وقت ما زال الكثير من الجزائريين المصرّين على نظرية المؤامرة، مقتنعين فيه أن بلدان العالم الأخرى لم تتحرك، ولم تتطور لأنهم هم كانوا يعيشون في حالة وطنية راكدة وما زالوا، بعد عشرين سنة من حكم بوتفليقة المقعد وأكثر من عشر سنوات قبلها، من شبه حرب أهلية طاحنة.. تجربة ركود طويلة استهلكت حياة جيل كامل من الجزائريين، ما زالوا غير مقتنعين بأن بلدهم في حاجة إلى وثبة جماعية حقيقية للتكيف مع موازين القوى السائد دوليا وإقليميا، بنتها شعوب أخرى في وقت كانوا هم، إما يتقاتلون في ما بينهم، أو ينتظرون فيه سماع صوت رئيسهم الذي سكت عن الكلام المباح، رغم تصفيقاتهم الكثيرة له.
تفاصيل كانت ضرورية للقول إن نتائج الفريق الوطني، على بساطتها ومهما كانت المبالغة الكبيرة في التعامل معها من قبل الكثير من الجزائريين، هي جزء من كُل في البلد، يشمل مستويات أخرى قد تنطلق من الجوانب الفكرية والسياسية للوصول إلى المتغيرات الاقتصادية الاجتماعية والثقافية التي تبقى في حاجة إلى إعادة نظر وتجديد، تسمح للجزائريين بتحديد طموحات جماعية وفردية قابلة للتحقيق، عبر مؤسسات وطنية تتمتع بالشرعية المطلوبة، تقودها نخب متنوعة وممثلة لمجتمعها. كما طالب بذلك الحراك الشعبي، من دون أن يتمكن من تحقيقه، تتحول أمامها نتائج الفريق الوطني لكرة القدم إلى لعبة مسلية لا غير، نتنافس فيها مع أبناء شعوب أخرى، عبر لعب جميل يقوم به أبناؤنا الذين نكون قد كوناهم في مدارسنا وفرقنا الرياضية، لم نجلبهم من بلدان أخرى هاجرت عائلاتهم إليها منذ عقود طويلة، لنكتشف فجأة أن أمهاتهم وجداتهم من أصول جزائرية، يجب عليهم اللعب بالتالي للفريق الوطني الجزائري للتغطية مؤقتا على سوء تسييرنا وفسادنا.
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لا تعليقات