أخبار عاجلة

ما كنا نسمعه حول فلسطين أصبحنا نراه في غزة

كنا نسمع ونحن شباب في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي داخل أسوار الجامعة، وبين صفوف الحركة الطلابية في الجزائر، أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية في المنطقة العربية، بكل عمقها التاريخي والرمزي، وهو ما أكده لنا بالملموس الإعلام الدولي بعد انطلاق الحرب على الشعب الفلسطيني في غزة عندما أهمل بشكل سريع وشبه كلي كل أحداث العالم، ليركز يوميا على ما يحدث في فلسطين وكأن الحرب الأوكرانية – الروسية قد توقفت، وإن ما يحصل في السودان من فظاعات وتهديد لكل المنطقة قد زال، إلى غيرها من أحداث العالم التي اختفت عن شاشاتنا.
كما كنا نسمع أن إسرائيل هي قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، وهو ما تأكد لنا بالملموس عندما زار الرئيس الأمريكي بايدن إسرائيل لحضور اجتماعات حرب مع قيادتها العسكرية، وهي تخطط لضرب الأطفال والنساء في غزة، وهو يبعث بجنوده إلى المنطقة. كما كنا نسمع أن التأييد الأمريكي للسياسة الإسرائيلية يتجاوز البعد السياسي والدبلوماسي لما هو أهم، لأنه مرتبط بعمق أيديولوجي وديني مترسخ لدى نخبة هذه القوة العظمى، كما عبر عنه الرئيس الأمريكي الديمقراطي وهو يقول إنه كان لا بد من خلق إسرائيل وبعثها للوجود لو لم تكن موجودة في الأصل! ليقرر إرسال أكبر حاملات طائراته إلى سواحل فلسطين لحماية إسرائيل من أي تطورات عسكرية غير متوقعة، وكأن جيش إسرائيل ـ رابع أو خامس جيش في العالم من حيث القوة – لا يحارب منظمة حماس الفلسطينية، بل جيش قوة عظمى، أو كما صرح وزير خارجيته وهو يزور إسرائيل بعد انطلاق عملية «طوفان الأقصى» بأنه يزور هذا البلد ليس كوزير خارجية أمريكا بل كيهودي! لو قالها وزير خارجية آخر في حالة أخرى لوصف بأبشع النعوت.. لعل أخفها أنه يخلط بين الدين والسياسة، وأنه غير مهني على الإطلاق.

لتنطلق زيارات لإسرائيل للاطمئنان عليها وعلى جيشها، تحولت هذه الأيام إلى طقس من طقوس تقديم الولاء من قبل نخب القوى الغربية الكبرى، التي يتصارع زعمائها على زيارة إسرائيل واللقاء مع نتنياهو، الذي كان معزولا بشكل هدد بقاءه على رأس الحكومة، منذ أيام فقط، لم يكن الرئيس الأمريكي يريد استقباله في البيت الأبيض، ليتحول فجأة إلى سياسي يتودد له الجميع، ويفرح الكثير عندما يظفر بلقائه لدقائق، بعد عناء سفر طويل، من قبل زعماء دول انتكست عن قيم ما كانت تدعيه من حرية وديمقراطية وهي تحاول منع وتجريم المسيرات الشعبية لمواطنيها المؤيدة للحق الفلسطيني، رفضا للعدوان العسكري على غزة وهو يقتل الأطفال والنساء بالآلاف. بكل النتائج التي ستترتب على هذا النكوص الفكري لنخب الغرب وهي تتخلى عن قيم العدالة والحرية والمساواة التي اشتهرت بالدفاع عنها في السابق عندما كانت تريد تسويقها لكل العالم. كقيم إنسانية صالحة لكل زمان ومكان ليكتشف العالم أنها غير قابلة للاستعمال في حالة غزة الفلسطينية هذه الأيام! لنكون أمام مشهد فاضح. نخب سياسية رسمية حاكمة في واد وشعوب وحركات اجتماعية شعبية في واد آخر، كما تبينه يوميا المظاهرات التي تخرج من مدن عديدة في العالم لتأييد الشعب الفلسطيني والدفاع عن حقه في الوجود على أرضه، يحتل فيها الشباب الغربي مكانة متميزة، ما يعني أننا سنكون أمام تحولات طويلة المدى لصالح القضية الفلسطينية، يجب العمل عليها، لكسب معركة الصراع مع الفكر الصهيوني في هذه الحواضر الدولية الفاعلة، المتحكمة في القرار السياسي الدولي.
على المستوى الداخلي كنا نسمع أن المجتمع الإسرائيلي لا يملك مقومات الاستمرارية والعيش المشترك بين مكوناته، غير المتجانسة التي تم جلبها من كل بقاع العالم لخلق توازن ديموغرافي مع أبناء البلد الأصليين، وأنه مجتمع مُعسكر تسيطر عليه مليشيات متطرفة، قابل للانفجار في أي لحظة. ليتبين لنا بالملموس كيف تحولت إسرائيل إلى ثكنة كبيرة لن تقدر على البقاء والعيش فيها إلا أقلية دينية متطرفة ما زالت تؤمن بأنها اشترت مفتاح بيتها من الله مباشرة! عكس الأغلبية من مواطنيها الذين لن يقدروا على العيش فيها على المدى الطويل، ضمن هذا الحيز الجغرافي الضيق، إذا لم ينجحوا في كسب حروبهم خارج هذا التراب، بفعل تفوقهم التكنولوجي المدعوم من الغرب، كما فعلوا في حروبهم الخاطفة السابقة التي لم تدم إلا أياما قليلة، ضد أنظمة فاشلة وجيوش مهترئة، عكس المواجهات التي دخلوا فيها مع المقاومة الفلسطينية هذه المرة، فرضت عليهم نمط حرب جديدة على أرض فلسطين في غزة، ستكون كلفتها البشرية عالية. بين أبناء مجتمع لم يأت إلى أرض الميعاد من نيويورك، لاهاي أو باريس للموت، بل للعيش والفرهدة في هذا البلد الذي اختاروه كإقامة ثانية. سيغادرونه كما هو حاصل جزئيا على الأقل هذه الأيام، إذا تأكد لهم أن ما يحصل في غزة سيتكرر في المستقبل. عكس ما تريد قيادتهم أن تعدهم به، من انها ستكون حرب إسرائيل الأخيرة.
ديموغرافية إسرائيلية، كما يؤكد الباحثون المتخصصون، أنها ستتوجه أكثر فأكثر نحو مواقف يمينية متطرفة، كما بدأ يظهر في السنوات الأخيرة وهي تحاول إقناع العالم أنها أمام حرب دينية، مع عدو متطرف، يشبه «داعش» وليس حركة تحرر وطني متنوعة سياسيا وفكريا تعكس بالضرورة ما يحصل من تحولات فكرية وسياسية في فلسطين والعالم وتتأثر به. كما كان الحال مع اليسار الفلسطيني ووجوه التاريخية المعروفة كجورج حبش اليساري، ابن العائلة المسيحية الأرثوذكسية، الذي لم يفلت من وصمة الإرهاب والمطاردة من بلدته – اللد- التي بنت إسرائيل مطار بن غوريون الدولي على أراضيها، بعد تهجير عائلته منها كالكثير من العائلات الفلسطينية المهجرة من أراضيها منذ تلك الفترة. في وقت تريد إسرائيل ومن والاها من نخب الغرب وإعلامه، إقناع العالم حتى وهي تتجنى على الحقيقة التاريخية، أن القضية الفلسطينية هي بنت لحظة 7 أكتوبر 2023. نتيجة معركة «طوفان الأقصى» رغم كل ما ميزها من نوعية في تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الطويل.

ناصر جابي

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات