اليوم، بعد عملية “طوفان الأقصى” التي أقضت مضاجع الإسرائيليين وأدت بعدئذ إلى تحويل معظم قطاع غزة إلى أنقاض، مع سقوط مئات كثيرة من الضحايا الفلسطينيين الأبرياء، لم تتردد الولايات المتحدة، كما حدث في كل حروب إسرائيل السابقة مع الجيوش العربية، في إمداد إسرائيل عبر جسور جوية بدبابات وطائرات وذخائر وصواريخ ودفاعات جوية، لتمكينها من المضي في إلحاق خسائر فادحة بالعرب، خصوصاُ الفلسطينيين الآن. أدهى من ذلك تشجيع واشنطن لسعي إسرائيل إلى تهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء المصرية وضغطها على الحكومة المصرية لتقبل – ولو عن لأي ـ بذلك، على الرغم من صمود مصر حتى الآن أمام ذلك الضغط.
كان أسطع مثال على الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل، ما حصل خلال حرب 6 أكتوبر 1973 ما دفع الرئيس المصري أنور السادات إلى الإعلان عن ذلك بعد استيلاء الجيش المصري على بعض تلك الدبابات التي سلمتها لإسرائيل في سيناء. وبلغ إجمالي ما نقل إلى الجيش الإسرائيلي عبر ذلك الجسر 27895 طناً من الاسلحة والذخائر والدبابات والطائرات الحربية الأمريكية.
وقد ارسل السادات يوم 20 أكتوبر 1973 برقية إلى الرئيس السوري حافظ الأسد قال فيها “لقد حاربنا إسرائيل إلى اليوم الخامس عشر، وفى الأيام الأربعة الأولى كانت إسرائيل تحارب وحدها فكشفنا موقفها فى الجبهة المصرية والسورية، وسقط لها باعترافهم 800 دبابة على الجبهتين، وأكثر من مئتي طائرة، أما في الأيام العشرة الأخيرة فإنني على الجبهة المصرية أحارب أمريكا بأحدث ما لديها من أسلحة، إنني ببساطة لا أستطيع أن أحارب أمريكا، أو أن أتحمل المسؤولية التاريخية لتدمير قواتنا المسلحة مرة أخرى، لذلك فإنني أخطرت الاتحاد السوفييتي بأنني أقبل وقف إطلاق النار، وقلبي ليقطر دما وأنا أخطرك بهذا، ولكنني أحس بأن مسؤوليتي تحتم عليّ اتخاذ هذا القرار”. ومعروف أن السادات كان قد اتفق مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر على “تحريك” الأوضاع بين إسرائيل ومصر بعملية حربية، ليستطيع كيسنجر التدخل عندئذ لحلحلة الموقف.
اليوم، في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” التي نفذها الجناحان العسكريان لحركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ما أثار هلعاً في أوساط الإسرائيليين، يتكرر السيناريو نفسه: الولايات المتحدة تهب مسرعة لنجدة إسرائيل وتشجيعها على مواصلة التطهير العرقي لفلسطين. أول من أكد لإسرائيل الدعم المطلق كان وزير الخارجية الأمريكي الصهيوني أنتوني بلينكن، الذي قال في مؤتمر صحافي بعيد وصوله إلى إسرائيل، إنه جاء إليها كيهودي (أسقط عن نفسه صفة أي حياد دبلوماسي أمريكي مزعوم)، مضيفاً أن الولايات المتحدة “تدعم إسرائيل اليوم وغداً وكل يوم”. وقد أجاد تمثيل دور المتأثر حزناً بالكذبة التي روج لها الإسرائيليون عن قطع مقاتلي “حماس” رؤوس أطفال إسرائيليين، وهي كذبة ثبت بطلانها.
أما وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن فقال في مؤتمر صحافي مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت بعيد وصوله إلى إسرائيل: “تظل الولايات المتحدة عازمة على تزويد إسرائيل بالوسائل الضرورية لحماية أمنها، وستضمن حصولها على ما تحتاجه للدفاع عن نفسها”. وأشار أوستن إلى حاملة الطائرات الأمريكية جيرالد فورد ـ وهي الأكبر في العالم ـ والسفن الحربية المرافقة لها قائلاً إنها أرسلت إلى شرق البحر المتوسط مع أسراب طائرات مقاتلة “لتعزيز الأمن الإقليمي”. وأضاف: “وزارة الدفاع الأمريكية مستعدة تماماً لنشر قدرات (عسكرية) إضافية حسب الحاجة.. الولايات المتحدة تحمي ظهر إسرائيل. هذا أمر غير قابل للتفاوض”. وأشار أوستن ليل السبت (14 أكتوبر) إلى وجود حاملة الطائرات الأمريكية الأخرى “أيزنهاور” والسفن الحربية المرافقة لها في شرق البحر المتوسط قائلاً، إن هذا تعبير عن التزام أمريكا الأكيد بأمن إسرائيل وتصميمنا على ردع أي دولة، أو كيان يسعى إلى تصعيد هذه الحرب”، في إشارة واضحة إلى “حزب الله” وإيران. وكان أوستن قد صرح بما هو أخطر من ذلك لجهة المشاركة الأمريكية الفعلية في الحرب على الفلسطينيين في غزة إذ قال، (حسب ما اوردته صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية يوم 12 أكتوبر 2003) بأن الولايات المتحدة “لديها أشخاص على الأرض” لمساعدة إسرائيل في إنقاذ الرهائن وتقديم المعلومات الاستخباراتية والتخطيط. وأردف: “لدينا قوات عمليات خاصة على أهبة الاستعداد لعمليات إنقاذ الرهائن مع فرق تتمركز في فورت براغ في ولاية نورث كارولاينا”.
أما مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان فحذر من فتح جبهة جديدة على الحدود بين لبنان وإسرائيل قائلاً، “لا نستطيع استبعاد انخراط إيران بطريقة أو بأخرى. علينا أن نستعد لكل طارئ محتمل”. وتكشفت أمور خطيرة أخرى يوم الاثنين 16 أكتوبر 2023، إذ كشف المحقق الصحافي والكاتب السياسي الأمريكي المعروف سيمور هيرش، أن إدارة الرئيس الأمريكي بايدن تدفع في اتجاه تسريع ترحيل سكان قطاع غزة إلى مصر وإسكانهم في بقعة قريبة من الحدود كانت سابقاً مستوطنة إسرائيلية قبل انسحاب إسرائيل من سيناء. وأضاف أن ذلك اقتضى عودة وزير الخارجية بلينكن الاثنين إلى إسرائيل بعد سعيه للضغط على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في هذا السياق. وأكد ما قاله هيرش تصريح مستشار الأمن القومي الأمريكي سوليفان الاثنين من أن “عملية النزوح” (كما لو أنها تطوعية وليست بموجب تهديدات حربية إسرائيلية) هي “تدبير احترازي غايته حماية المدنيين الذين لهم حق الرجوع إلى ديارهم بعد نهاية الأزمة”، لكنه لم يعط اي ضمان أمريكي لعودتهم. (إسرائيل لم تسمح بعودة لاجئي عام 1948 بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194 إلى يومنا هذا).
ثم طلع علينا الرئيس بايدن نفسه فجر الاثنين (16 اكتوبر) عبر شبكة “سي أن أن” ليقول، إن إسرائيل ترتكب خطأً كبيراً” اذا احتلت غزة مدعيا أنه لا يرى حاجة لمشاركة قوات أمريكية “في الصراع الدائر حالياً”. لكن بايدن الذي بدا ناعساً كالعادة، قدم دليلاً على وجود قوات خاصة أمريكية تعمل حالياً مع القوات الاسرائيلية اذ قال: “سنبذل كل ما في وسعنا للعثور على من لا يزالون على قيد الحياة من الأسرى الذين تحتجزهم حماس في غزة وإطلاق سراحهم”. ورداً على سؤال قال بايدن”: “نعم، يجب القضاء على حركة حماس كلياً، ولكن يجب أن تكون هناك سلطة فلسطينية وطريق نحو دولة فلسطينية”. (قوله الأخير هذا عن طريق إلى دولة فلسطينية هو وعد كاذب الغرض منه أن يهلل له المطبعون العرب مع إسرائيل ليتخذوه ستاراً يغلفون به تطبيع العار مع إسرائيل). وما يؤكد أن ذلك وعد كاذب هو أن بايدن أضاف: أن حل الدولتين كان سياسة الولايات المتحدة “منذ عقود” وأن “من شأنه أن ينشئ دولة مستقلة للفلسطينيين إلى جانب إسرائيل”.
سياسة الولايات المتحدة منذ عقود؟ وتسامح أمريكي تجاه قضم إسرائيل الأراضي الفلسطينية منذ عقود؟ وتعيين وسطاء أمريكيين صهاينة في عملية سلام زائفة منذ عقود؟ يا سلام يا سلام.
ماهر عثمان
تعليقات الزوار
ظالمة أو مظلومة
إذا كانت لحماس وإيران والجزائر حجة القصف الإسرائيلي لللمستشفى فليأتوا بها بأقمارهم الإصطناعية