مع انتهاء شهر رمضان، واستمرار أزمة ارتفاع الأسعار، تكون حكومة عزيز أخنوش قد استنفدت كل خياراتها من أجل حماية القدرة الشرائية للمواطنين، وحماية السلم الاجتماعي. فكل الإجراءات التي قامت بها سواء بلقاء المنتجين في القطاع الزراعي، أو رفع الرسوم عن الآليات الفلاحية المستوردة، أو مراقبة السوق وحمايته من المضاربين، أثبتت محدوديتها أمام واقع استمرار ارتفاع أسعار الخضر والفواكه والمواد الغذائية. والمفارقة، أن استيراد حوالي 11 ألف رأس من الأبقار من البرازيل، لم يكن له أي تأثير على أثمان اللحوم الحمراء في السوق المحلية، مما عزز شكوكا، باستثمار بعض رجال الأعمال التابعين لأحزاب التحالف الحكومي في الأزمة، بدفع الحكومة نحو رفع الرسوم عن الاستيراد، وتحقيق الكسب من جهتين: شراء الأبقار من البرازيل بأثمان بخسة، والإعفاء من الرسوم الجمركية، دون خفض لأسعار اللحوم الحمراء في الداخل.
الواقع، أن هذه المؤشرات التي تكشف فشل سياسية حكومة، تخفي في الجوهر، أزمة رؤية، تحاول أن تقارب موضوع التوازن الماكرو اقتصادي للبلاد من غير إدخال معامل المسألة الاجتماعية في الحساب.
في عهد حكومة ابن كيران، لم تكن المعادلة بعيدة عن تحقيق هذا التوازن، وكانت الظروف الاقتصادية، تملي التضحية ببعض شرائح المجتمع، خاصة منها الطبقات الوسطى التي تم إيقاف الكثير من امتيازاتها، وربما حقوقها أيضا، بحجة تقوية مالية الدولة واستعادة التوازن الماكرو اقتصادي، وكانت عبارة «إذا عاش النسر، يعيش أولاده» تفسر هذه الرؤية التي تنطلق من أولوية تقوية الدولة، حتى تكون قادرة على تلبية حاجيات المجتمع، وكان لازم هذه الرؤية، ضرورة الاهتمام بالطبقات الشعبية الأكثر فقرا وهشاشة، إذ لا يمكن الرهان على تقوية توازنات الدولة المالية بالتضحية حتى بحقوق الطبقات الفقيرة.
كانت رؤية التوازن، في حكومة ابن كيران، هي تقوية الدولة في جانب، والعناية بالطبقات الفقيرة والهشة من جانب، بحجة أن الطبقات الوسطى، التي تعرف دائما كيف تحتج وتدافع عن حقوقها، يمكن لها أن تصبر حتى تتحسن مؤشرات الدولة المالية والاقتصادية، وهي في الآن ذاته، تستفيد من توسيع شبكة المؤسسات الخدمية التي أولتها حكومة ابن كيران وحكومة سعد الدين العثماني بعدها عناية كبيرة.
السياسي الثاوي وراء هذه الرؤية، هو كسب ثقة الدولة، دون تضييع ولاء القاعدة الشعبية العريضة التي تمثل القاع الاجتماعي، مع الاشتغال التواصلي مع الطبقات الوسطى، لحملها على دفع ثمن الإصلاح وكلفته.
حكومة عزيز أخنوش، لم تبتعد هي الأخرى عن قصد تحصين التوازن الماكرو اقتصادي لمالية الدولة الذي ورثته عن حكومة سعد الدين العثماني، لكنها انزاحت إلى تصور آخر، يرى أن دفع النمو بتشجيع رجال أعمال، سيعزز وتيرة التشغيل، وسيكون حل المسألة الاجتماعية من هذه البوابة لا من بوابة الدعم الاجتماعي، ووجدت في توجيهات الملك بتعميم الحماية الاجتماعية، مندوحة عن القيام بأي جهد في اتجاه الطبقات الوسطى ولا الطبقات الدنيا.
والمشكلة، أن هذه الرؤية التي لها ما يدعمها في نظريات الاقتصاد، جاءت في سياق أزمة عالمية، أصبحت فيها الهشاشة مصدر تهديد حقيقي للسلم الاجتماعي، بل أصبح أي عجز عن تأمين القوت، مؤذنا بأزمة اجتماعية ومالية ونقدية أيضا، فقد ساهمت الحرب الروسية على أوكرانيا في تعقيد الوضعية الاجتماعية، وخفض القدرة على تحمل كلفة المعاش اليومي، كما ساهم تراكم الجفاف، في رفع الحماية عن الطبقات الفقيرة والهشة، التي كان قوتها اليومي المحصن، يغنيها عن تكثيف طلبها على الخدمات الاجتماعية الأخرى، مثل الصحة والتعليم والسكن.
حكومة أخنوش، تبنت رؤية مختلفة عن التي تبنتها حكومة سعد الدين العثماني، التي قدمت الدعم الاجتماعي للطبقات الهشة خلال جائحة كرورنا، فاتجهت حكومة عزيز أخنوش على العكس من ذلك، إلى وضع هذه الطبقات أمام واقع التضخم وانفلات الأسعار، واتجهت نحو رجال الأعمال بحجة دعم الاستثمار لتحقيق النمو وخلق فرص الشغل.
واقع هذه الرؤية، انتهى إلى تقوية مالية الدولة، وإرضاء نخب المال والأعمال، وفي المقابل، تهديد التوازن الاجتماعي، من خلال تسريع تهاوي الطبقات الوسطى، وتغير التحدي لدى الطبقات الدنيا، من تلبية الخدمات الاجتماعية، إلى تهديد القوت اليومي.
السياسي، الثاوي وراء هذه الرؤية، أن تقوية مالية الدولة بعدم السماح بأي شكل من الأشكال بخفض الضرائب على المواد المستوردة بغرض التحكم في التضخم وخفض الأسعار، كان يسعى إلى كسب شرعية الدولة وتوفير موارد تساعدها على مواجهة تحدياتها الدبلوماسية والدفاعية، والتوجه نحو رجال المال والأعمال، الذي كان القصد الظاهري منه، هو تسريع النمو لخلق فرص الشغل، لكن الواقع، يؤكد بأن هذا التوجه أملته التركيبة السوسيولوجية لأحزاب التحالف الحكومي التي تتكون في الأصل من نخب المال والأعمال.
بيان ذلك، أن هذه النخب التي تشكل البنية الأساسية لحزب الأحرار وحزب الأصالة والمعاصرة، وبنسبة أقل حزب الاستقلال، تجد اليوم الفرصة مواتية، للضغط على قيادات أحزابها من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب، لأنها تدرك أن الحكومة تفقد للقوة السياسية التي تقاوم بها نخبها من الداخل، لسبب بسيط وهو أن توازن الأحزاب من الداخل، يقوم أصلا على تلبية حاجيات نخب المال والأعمال، وأن أي إخلال بهذا التوازن، يعني مغادرة هذه النخب وترحالها السياسي لأحزاب أخرى.
أحزاب الأعيان، أو أحزاب نخب المال والأعمال، تنطلق دائما من مسلمة مجربة بخصوص مكونات المجتمع ودورهم الانتخابي، فهذه المكونات في تصورها تتبع المال، ويمكن في اللحظة الانتخابية التأثير عليها وإزالة السياسي، أو بالمعنى الأدق، تحييد «العقابي» من سلوكها الانتخابي، ولذلك، تتوجه هذه الأحزاب دائما إلى دعم نخب المال والأعمال بدل جعل المسألة الاجتماعية في قلب اهتماماتها، لأن تجربتها السابقة، تبين لها حدود دور المال ونفوذ رجال الأعيان ورجال المال في تكييف السلوك الانتخابي.
في انتخابات 2011 و2016، كانت النتائج الانتخابية، على عكس هذا التمثل المجرب الذي تحمله أحزاب نخب المال والأعمال، لكن تفسيرها للحدث الأول، احتج بإرادة الدولة، وأنها هي التي سمحت بفوز الإسلاميين كما سمحت من قبل بفوز الاتحاديين لما كان القصد أن يخوض المغرب تجربة التناوب، لكنها فضلت أن تتجاوز الحدث الثاني، وتمتنع عن تفسيره، لأنها لم تكن متيقنة من إرادة الدولة، بعد ظهور مؤشرات قرئت في سلوك الدولة على أن حزب العدالة والتنمية لم يعد مرغوبا فيه.
ولذلك، يسود نوع من الاضطراب في تقدير أحزاب التحالف الحكومي لمزاج الدولة حاليا، وبالتالي شكل الاشتغال مع الأزمة، فحزب الاستقلال، يسارع الخطى من أجل إقناع الحكومة بتسريع الدعم الاجتماعي للفئات الهشة، لكن أحزاب نخب المال والأعمال، ترى أن إرادة الدولة، لا تزال داعمة لها، وأن أي تحول في الظروف الدولية والإقليمية، سيعيد الأمور إلى نصابها ويضفي على رؤية حكومة أخنوش بعض الحيوية.
بلال التليدي
تعليقات الزوار
لا تعليقات