في مدن الشرق والجنوب الليبي، خرجت خلال الأيام الماضية تجمعات محدودة طالبت بالإسراع في إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، في مشهد أعاد إحياء الجدل حول مسار خارطة الطريق وموقع معسكر الشرق من العملية السياسية، خصوصاً مع تصاعد الانتقادات الموجّهة إلى حفتر ومحاولاته استثمار الشارع للحصول على «تفويض» يضعه في موقع السلطة العليا دون سند قانوني أو سياسي.
وبرغم طابع المطالب المعلنة التي تركز على ضرورة تنظيم الانتخابات في أقرب وقت، فإن حجم الحشود وتناقض الخطابات السياسية كشفا عن انقسام داخلي أعمق، وتراجع واضح في قدرة حفتر على حشد اصطفاف شعبي خلف مشروعه الشخصي.
المظاهرات التي نظمتها لجان محلية في بنغازي والبيضاء وأجدابيا وطبرق، رفعت شعارات تدعو إلى إنهاء حالة الانتظار السياسي والالتزام بمبدأ الاقتراع المباشر، وشدد منظمو هذه التحركات على أن حق الليبيين في اختيار قيادتهم هو الطريق الوحيد للخروج من دائرة الانقسام.
غير أن خطاب عدد من الصفحات الموالية لمعسكر الشرق حاول ربط هذه التحركات بالدعوة إلى «تفويض حفتر» لرئاسة ليبيا، وهو طرح يعيد إنتاج تجارب سابقة أثبتت محدوديتها وفشلها السياسي، كما كشفته الحشود الضئيلة التي ظهرت في ساحات شرق البلاد.
رئيس مجلس النواب عقيلة صالح استغل هذه الحركة الخافتة لإصدار بيان دعا فيه المفوضية الوطنية العليا للانتخابات إلى «العمل الفوري» على تنفيذ قانون انتخاب الرئيس، مؤكداً أن ثلاثة ملايين ناخب مسجلين ينتظرون بدء العملية الانتخابية. لكنه قدّم الدعوة بصيغة تُغلّب الرئاسيات فقط، متجاهلاً القوانين التي نصّت على إجراء الاستحقاقين الرئاسي والبرلماني بالتزامن، ما اعتُبر رسالة سياسية ضمنية موجّهة لمعسكر حفتر أكثر من كونها خطوة عملية.
وفي السياق نفسه، شهدت مؤسسات التعليم في المنطقة الشرقية حالة ارتباك واسعة صباح الأحد، بعد انتشار دعوات مجهولة المصدر عبر مواقع التواصل تحثّ على «عصيان مدني» لتعطيل الدراسة والضغط من أجل إجراء الانتخابات. وبين النفي الرسمي من حكومة الشرق ومراقبة التعليم في بنغازي، وبين تدفق الشائعات، عزف كثير من الطلاب عن الذهاب إلى مدارسهم، ما أجبر مراقب التعليم على إصدار تعميم عاجل يقصر اليوم الدراسي على مراجعة الدروس.
وتعيد هذه الوقائع طرح الأسئلة حول إدارة حكومة الشرق للملف العام، وارتباك أدواتها أمام موجات التحشيد التي ترتبط في الغالب بمشاريع سياسية داخلية، أكثر من ارتباطها بمطالب خدماتية أو تعليمية.
وتزامنت هذه التطورات مع خروج مجموعات محدودة الجمعة الماضية في عدد من المدن تدعو إلى تفويض حفتر. وبرغم محاولات الإعلام الموالي تضخيم المشاهد عبر زوايا تصوير ضيقة، فإن الصور المتداولة أظهرت تجمعات لا تتجاوز العشرات، ما قوّض السردية التي حاول حفتر وفريقه الدفع بها منذ أسابيع.
علي العسبلي، مدير منظمة رصد الجرائم في ليبيا، علّق بأن الحشود التي جمعها حفتر «لا تكفي لأن توصله إلى منصب عميد بلدية فضلاً عن رئاسة ليبيا»، وهو تعبير عكس حجم التراجع في القاعدة الاجتماعية التي كان يحاول حفتر تصويرها كحاضنة سياسية ثابتة.
وبرغم ضعف الحضور الشعبي، سارع مجلس النواب إلى إصدار بيانات متضاربة في لهجتها، تكشف بوضوح حجم الصدع داخل المعسكر نفسه عقيلة صالح قدّم بياناً يركّز على الانتخابات الرئاسية فقط، بينما أصدر نائبه مصباح دومة بياناً آخر طالب فيه بإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية معاً، وفق ما نصّت عليه القوانين ثم خرج بيان ثالث من الناطق باسم مجلس النواب عبد الله بليحق، يؤكد فيه أن «نواب برقة» يدعمون موقف عقيلة، ملوّحين بتعديل القوانين إذا تأخر تنظيم الانتخابات.
ويعكس اختلاف الصياغة بين البيانات الثلاثة صراع نفوذ داخلي، إذ تشير معلومات برلمانية إلى أن الخلاف بين صالح ودومة قائم منذ شهرين، وأن كتلاً داخل المجلس تعمل على إعادة تشكيل رئاسته، فيما تضغط مجموعات أخرى تابعة لحفتر للحفاظ على ميزان القوى القائم.
كما أن محاولة حفتر استعادة موقعه القيادي عبر «التفويض» لم تكن بمعزل عن تحركات أوسع قام بها في أكتوبر ونوفمبر، عندما عقد سلسلة لقاءات قبلية في الجنوب والشرق والغرب لاستعادة الغطاء الاجتماعي الذي فقده تدريجياً.
وخلال تلك الاجتماعات دعا الليبيين إلى «انتزاع حقوقهم» بإشراف قواته، في خطاب يعكس رغبة في تجاوز مسار خارطة الطريق التي ترعاها الأمم المتحدة، والتي يرفضها معسكر الشرق منذ توقيع اتفاق الدوحة، معتبرين إياها مساراً مفروضاً لا يراعي «سيادة» المؤسسات شرق البلاد. وفي كل مناسبة تقريباً هاجمت الحكومة المكلفة من البرلمان البعثة الأممية واتهمتها بالتدخل والانحياز، في استمرار لنهج يهدف إلى إضعاف أي إطار دولي قد يقيد تحركات حفتر أو يعمّق المساءلة حول الانتهاكات أو الفساد في مناطق سيطرته.
لكن قراءة المشهد الراهن تُظهر أن الشارع في الشرق لم يعد ورقة مضمونة بالنسبة لحفتر؛ فضعف الحشود لم يعبّر فقط عن تراجع شعبيته، بل كشف كذلك عن إعادة تموضع داخل النخب السياسية التي باتت ترى أن ربط مصير المنطقة بشخص واحد لا يخدم موازين القوة في المرحلة المقبلة. وهذا التراجع يفسر لجوء عقيلة صالح إلى التشديد على المسار القانوني ودعوة المفوضية إلى العمل، إذ يدرك أن أي تفويض شعبي لحفتر لا يمتلك سنداً تشريعياً، وأن القوانين الانتخابية التي أصدرها البرلمان تتضمن بنوداً تمنع ترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية، وهي شروط تنطبق مباشرة على حفتر. وبهذه الصيغة، بدا بيان عقيلة كأنه محاولة لتقييد طموح حفتر في العمق، مع الاحتفاظ بمدخل يوحي بأنه لا يعارض مبدأ الانتخابات.
وبرغم محاولات حفتر الرد عبر دومة ودوائره المقربة، فإن التناقض في الخطاب الرسمي أظهر أن المعسكر نفسه يعيش حالة ارتباك متزايدة وبين مسار خارطة الطريق الذي تتمسك به الأمم المتحدة، وبين سعي حكومة الشرق إلى تقويضه، وبين مشروع التفويض الذي لم ينجح في خلق زخم حقيقي، يتجه المشهد في الشرق إلى مزيد من الانقسام.
ووفق مراقبين، فإن النتيجة الأبرز حتى الآن أن محاولات حفتر لاستعادة المبادرة لم تعد تحظى بالقبول الشعبي أو السياسي ذاته، وأن السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار يظل في الاحتكام إلى الانتخابات الشاملة والدستورية بعيداً عن مشاريع التفويض الفردي أو محاولات الهيمنة العسكرية التي أثبتت فشلها.
تصدع في معسكر شرق ليبيا مظاهرات و خلافات حول التفويض ومسار خريطة الطريق

تعليقات الزوار
لا تعليقات