أخبار عاجلة

العلاقة المسكوت عنها في الجزائر

يحلو للكثير من الجزائريين في السنوات الأخيرة، التباهي على صفحات الوسائط الاجتماعية، بمدنهم الجميلة، وهم يقومون بعرض صور شوارعها الواسعة وساحاتها الأنيقة، لمقارنتها مع ما آلت إليه أوضاع هذه المدن بعد الاستقلال. متناسين التذكير بأن الأمر يتعلق بمدينة استعمارية، بديموغرافية وسوسيولوجيا مختلفة نوعياً وكمياً، مبنية أساسا على تمييز عنصري واضح، يظهر على أكثر من صعيد عمراني، اقتصادي وثقافي. برز للسطح أكثر بعد التحول الذي عرفته الظاهرة الاستعمارية الاستيطانية في الجزائر، إلى ظاهرة حضرية، بعد فشلها في الانغراس في المناطق الريفية، بداية من ثلاثينيات القرن الماضي، في وقت كانت فيه فرنسا تحتفل بمئوية احتلالها للجزائر 1830-1930.
لنكون أمام فشل أكبر للجزائريين، عندما يتعلق الأمر ببناء مدن جديدة بعد الاستقلال، لم تنجح دولتهم الوطنية في بنائها، عكس ما قام به الاستعمار الفرنسي في قرن وثلث القرن من بناء للكثير من المدن، ليبقى الإنجاز الأكبر للجزائريين بعد الاستقلال ما قاموا به من تطوير بعض الأحياء السكنية القبيحة – على غرار عين النعجة وباش جراح في العاصمة وعلي منجلي بقسنطينة – الملتصقة بمركز المدن الاستعمارية القديمة. عكس بعض الحالات التاريخية الناجحة، القليلة جدا، المرتبطة بالعمران التقليدي في بعض المناطق، كما هو حال مدن بني ميزاب وبعض القصور في أقصى الجنوب، زيادة على بعض المناطق الريفية الجبلية على غرار منطقة القبائل والأوراس، التي أهملت كتجارب عمرانية جيدة بعد الاستقلال، من البيروقراطية المكلفة بتسيير الملف العمراني، التي تبنت نمط البناء الغربي الجماعي بصيغته الشعبية، تحت ضغط الطلب الاجتماعي، من دون التفكير في تطوير هذه التجارب التاريخية الناجحة الأكثر تكيفا مع جغرافيا وسوسيولوجية البلد، وثقافة سكانه، كتجارب عمرانية ناجحة طورها الجزائريون، منذ قرون، لم تجد الدعم المطلوب من قبل مؤسسات الدولة الوطنية بعد الاستقلال.

الجزائريون الذين لم يعرف عنهم بذخ خاص عندما يتعلق الأمر ببناء سكناتهم العائلية، التي بقيت متواضعة على العموم نتيجة الطابع الفقير للمجتمع. عكس ما بناه الأوروبيون لأنفسهم وليس للجزائريين، طول الفترة الاستعمارية، كما يظهر بجلاء في أحياء مثل، حيدرة والأبيار في العاصمة، على سبيل المثال، زيادة بالطبع على وسط المدينة المخصص للأوروبيين، لتكون المقارنة دائما وفي كل الحالات لصالح وسط المدينة الأوروبي كنوعية سكن، ساحات، شوارع ومرافق عمومية ما زالت تحظى بطلب كبير عند الجزائريين، على الرغم من أنها لم تعد تكفي لإسكان الاعداد الكبيرة من الجزائريين الريفيين الذين التحقوا بهذه المدن، بداية من أيام الاستقلال الأولى، زيادة على ما أفرزه النمو الديموغرافي الطبيعي الذي عرفه المجتمع الجزائري بعد الاستقلال، تزايد بموجبه عدد السكان من تسعة ملايين في سنة الاستقلال إلى 45 مليون نسمة حاليا.
بالطبع العجز العمراني للجزائريين بعد الاستقلال لا يقتصر على ما حصل أو لم يحصل من بناء، حتى نكون أكثر دقة، داخل المدن التي تحول الجزائريون للعيش فيها بشكل كثيف، فهناك جزائريان اثنان من ثلاثة جزائريين ، يسكنون في المدن الكبرى والمتوسطة – بل يتعداه إلى التوزيع السكاني على التراب الوطني الذي استمر على المنوال نفسه، الذي كرّسه نمط الاقتصاد الكولونيالي الفرنسي، وهو يركز على الشريط الساحلي المفيد، في علاقة واضحة مع التراب الفرنسي على الضفة الشمالية للمتوسط، ليتم إهمال واضح للهضاب العليا والجنوب، على الرغم من أن المعطى الاقتصادي والجيو- سياسي كان يفترض إعادة النظر في هذه الخيارات لصالح العمق الجغرافي للجزائر، الذي كان يجب أن يتحول إلى عمق سوسيولوجي وعمراني لا تبقى فيه هذه المناطق الواسعة في الهضاب العليا والجنوب، شبه فارغة من السكان، مقابل الاكتظاظ البشري الكبير الذي يعيشه الشريط الساحلي الضيق الذي يتعرض إلى استغلال جائر في موارده، كما هو حاصل لحد الآن، بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال، أصبح الجزائري يجد نفسه وجها لوجه مع رمال الصحراء، على بعد أقل من 250 كلم من مغادرته العاصمة في اتجاه الجنوب.
منطق تهيئة عمرانية أهمل في السياق نفسه البحر والقطار كوسيلة نقل لصالح السيارة الفردية، في غياب صناعة ميكانيكية فشل البلد نصف قرن بعد الاستقلال في بنائها بالموازاة مع هذا الخيار، عاش البلد لسنوات ولا يزال نتائجه الكارثية على مستوى الخسائر البشرية لحوادث الطرق، وكأنه قدر مكتوب على الجزائريين، ناهيك عن قضية التقسيم الجغرافي للتراب الوطني إلى ولايات ومناطق كبرى، المسكوت عنها منذ سنوات، بكم الإشكالات المرتبط بها، كما بينته الحملة الانتخابية لرئاسيات 7 سبتمبر/أيلول الأخيرة، التي لم تشهد نقاشات حول هذا الموضوع الحساس، كما كان الأمر بالنسبة للكثير من المواضيع التي تهم الجزائريين. نقاشات سرعان ما يطغى عليها البعد الجهوي المسكوت عنه، وكأن التقسيم الترابي لا يعني إلا جهة واحدة – منطقة القبائل – ما زال النظام السياسي اليعقوبي يتوجس منها الكثير، رغم ما أظهرته المنطقة وابناؤها تاريخيا من عمق في الرابط الوطني، برهنت عنه في مراحل كثيرة من التاريخ الوطني، كما شهدت على ذلك مرحلتا الحركة الوطنية وحرب التحرير، لم تمنعها من المطالبة بالدفاع عن خصوصياتها الثقافية واللغوية، التي كرسها الدستور الجزائري أخيرا. في حين تقول القراءة الموضوعية المستقبلية، إن الجزائر في حاجة إلى قراءة جديدة لتقسيم ترابها الوطني يأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية الموضوعية بالدرجة الأولى في هذه المرحلة التي ضعفت فيها الأطروحات الثقافوية والأيديولوجية، التي كانت سائدة لدى الجزائريين خلال عقد التسعينيات بجو العنف الذي عرفه. تقسيم للتراب الوطني يعتمد على التقسيم الأفقي ـ شمال -هضاب عليا – جنوب، الأكثر موضوعية وليس التقسيم العمودي – شرق – غرب – وسط الذي يحفز الأبعاد الجهوية والثقافوية، المسكوت عنها لدى الجزائريين والجزائريات، على الرغم من النجاحات التي حققتها الجزائر في بناء مجتمع يتجه بخطى واضحة نحو تجانس أكبر اعتمادا على الكثير من المؤسسات، التي يأتي على رأسها الزواج المختلط بين أبنائها وبناتها من كل الجهات، وهم ينتقلون للإقامة في المدن الكبرى والمتوسطة للعمل والدراسة والسكن.

ناصر جابي

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات