ونحن نطوف في بلدة بيخاتش، تلك البلدة المسالمة التي يطغى عليها اللون الأخضر، الواقعة في البوسنة والهرسك، على بعد كيلومترات قليلة من الحدود مع كرواتيا، قد يتناهى إلى سمعنا صوت الشاب بلال. قد نتخيل من وهلة أولى، أن ذلك المغني الجزائري بلغ العالمية، وصار صوتاً يجوب الأصقاع على غرار الشاب خالد، لكن الأمر ليس كذلك، لأن صوت الشاب بلال لا يصدح في حفل غنائي، بل في حديقة عامة، أو على ضفاف النهر الذي يقطع البلدة، بمياهه الصافية، فالبوسنيون لا يستمعون إليه، أو بالأحرى لا يفهمون أغانيه، ولا يستمع إليه الأجانب الذين يقصدون بيخاتش في سياحة. وعندما ندنو من مصدر الصوت، سوف نصادف شلة من الجزائريين يتحلقون حول موبايل، ويصغون إليه بصوت عالٍ. وذلك ما وقعت عليه عيناي. إنهم مهاجرون غير شرعيين، تتراوح أعمارهم بين أوائل وأواسط العشرينيات من العمر. طاروا من الجزائر إلى تركيا، ومن هناك عبروا الحدود مشياً على الأقدام، قبل أن يبلغوا البوسنة والهرسك، على أمل التسلل إلى كرواتيا، ثم الوصول إلى إيطاليا. في الأثناء سوف يصير هؤلاء الجزائريون اخوة، عكس حالهم في الوطن. ففي الداخل لا يزال كل فرد متشبثاً بالجهة أو المنطقة التي يعيش فيها. يدافع عنها كمن يدافع عن قوت يومه. لا يسمح لجزائري آخر أن يتحدث عن جهته ولو كان الأمر لا يعدو أكثر من نكتة. ففي التلفزيون، يستحيل أن نشاهد كوميديا تتضمن نقداً أو سخرية من واحدة من مناطق الوطن. الأمر بوسعه أو يؤول إلى خطاب كراهية، وتندلع معارك على السوشيال ميديا، على الرغم من كونها مجرد كوميديا.
هذا الانغلاق في المنطقة أو الجهة، حوّل الكوميديا في الجزائر إلى تجربة مملة، لأنها تخضع إلى رقابة مجتمعية، لكن عندما يغادر الجزائري بلده إلى أوروبا يتخلى عن مغالاته في الجهوية. يصير ينكت بإسراف، ولا ضرر إن سمع آخر ينطق نكتة عن بلدته أو قريته. في أوربا تتهاوى الحيطان بين الجزائريين، ويصير انتماؤهم إلى الوطن أجمع، وليس إلى مدينة أو بلدة. أوروبا تعيد إليهم شعورهم بالمواطنة، بعدما كانت مواطنتهم محصورة في المنطقة التي يسكنون فيها. يصيرون أبناء بلد واحد، بعدما كانوا في السابق يدافعون عن منطقة بعينها، وبعدما كانوا يشعرون بحرج إن تحدث عنها مواطن آخر بالنقد أو التعليق.
من الأكل إلى فريق الكرة
تكفي إطلالة سريعة على السوشيال ميديا، في الجزائر، كي ندرك حجم الشوفينية المحلية، حيث إن كل مدينة من مدن البلاد لها صفحتها ولها محبوها ومتابعوها. وهذه الصفحات لا تتحدث إلا نادراً، عن الوضع الصعب الذي يعيش فيه الناس، من انقطاع كهرباء أو ماء، من جرائم أو اغتصابات، بل يهمها أن ترفع من مشاعر الانتماء الضيق، ونلاحظ أن محبيها من ساكنتها، يسرفون في نشر صور مأكولات محلية، والتعليق عليها، كأنها موائد نزلت من السماء، وأنها أشهى ما يأكل الإنسان، تحرص على نشر صورة فريق المدينة، مع مبالغة في تشجيعه وأنه الفريق الأحق بالبطولات كلها، ومن يشجع فريقاً من خارج المدينة يشعرونه كمن اقترف إثماً. ومن حين لآخر يقع الناشطون على السوشيال ميديا في مديح الكولونيالية وفي التفاخر بسنوات الاستعمار، عندما ينشرون صور مدينتهم في الماضي، عندما كانت فرنسية، ويظنون أن تلك الصور دليل تفوق على نظيراتها من مدن البلاد الأخرى.
قد نفهم هذه المشاعر التي يبوح بها الناس في الإعلاء من انتمائهم، إنها مشاعر طبيعية، يقصد منها التفاخر بما يملكون من تاريخ، أو من مكتسبات ثقافية، لكنها تحولت إلى مزايدة على الآخرين، كأن الأفراد غير مكتفين بتقاسم تلك الشوفينية المحلية في ما بينهم، بل يريدون الرفع من صوتهم، قصد إغاظة الآخرين، والتباهي أمامهم بما يملكون. هكذا تتحول العلاقة بين الناس إلى علاقة انغلاق، لأن كل واحد منهم يظن نفسه أعلى شأناً من الآخر، ذلك ما يحصل داخل الجزائر، لكن عندما يحمل ذلك المواطن حقيبة على ظهره، وينخرط في طريق الهجرة إلى أوروبا، سوف يتنازل عن الشوفينية المحلية، ويتخلى عن المجاهرة بأنه من بلدة تطهو أشهى أكل، أو يناصر فريقاً يظنه الأفضل. ففي الغربة تصير علاقته مع مواطنيه متساوية، لأنهم كلهم إزاء مأزق واحد، كلهم في طريق وعرة، يتخلون عن انتمائهم الضيق ويبحثون عن انتماء وطني جامع يربط بينهم.
أنت تكون جزائرياً خلف البحر
يتعذر السفر على الجزائريين لأسباب عدة، من بينها صعوب استخراج التأشيرة إلى أوروبا، وكذا تكاليف السفر بالنظر إلى تراجع قيمة الدينار، ومع السنين صارت تونس الوجهة الأهم لمن يود قضاء عطلة، لكن تونس لا تختلف كثيراً عن البلد الذي جاؤوا منه، وعندما يصلون إلى أوروبا، يكتشفون ثقافة أخرى، وتمازجاً بين الثقافات، يكتشفون إنساناً مغايراً، يعيش في تمازج بين الثقافات المتعددة، وغير منغلق على ثقافة واحدة، لا في أكل واحد، ولا ملبس واحد، ولا فريق كرة واحد. هذا الاصطدام مع المناخ الأوروبي يجعلهم يعيدون النظر في القناعات التي جاؤوا بها من الجزائر، وأن الشوفينية المحلية لم تكن سوى قناع، وأن العالم أرحب من أن تسكنه ثقافة واحدة. لذلك يصير الجزائري شخصاً آخر في الخارج، يستعيد هويته الكونية، يعود إلى مواطنته وإلى إحساسه بالجزائرية، بعدما كان لا ينظر سوى إلى الإقليم الذي يسكن فيه. تتسع رقعة النظر ويتسع تقبله للآخر، ثم ينزع عباءة الانتماء إلى المنطقة أو الجهة الواحدة. هو لا يتخلى عن أصله، لكنه يصير أكثر تسامحاً، ومندفعاً في البحث عن عناصر ثقافية جديدة يثري بها مخيلته وذائقته. يتحول إلى شخص آخر بعدما كان منهمكاً في تعاطي ثقافة واحدة، في حيز جغرافي ضيق. رغم صعوبة المغامرة، مع السير على قدميه في غابات وأحراش أوروبا، من أجل الوصول إلى مبتغاه، فإن هذه الرحلة سوف تحرر الجزائري من النظر إلى الأشياء بعين واحدة، ويصير نظره متعدد الجوانب، لأن أوروبا سوف تعيده إلى أصوله، إلى مواطنته الكاملة لا المنقوصة.
سعيد خطيبي
تعليقات الزوار
[email protected]
مقولة مكة الثوار او قلعة الثوار اكذوبة العصر كاكذوبة ستة ملايين الهوليكوست ومليون ونصف مليون شهيد او بالاحرى خمسة ملايين وستمائة وثلاثين الف شهيد والعهدة على عمي تبون. الحق والحق نقول ان جل الجزائريين الحراكين في اوروبا يمارسون التخنشيل والسرقة والتحرش الا فئة قليلة منهم. عندما يخرج الجزايري من الجزاير يصطدم بواقع مغاير لما عاشه في منطقته ، في اوروبا للثقافات مختلفة ، العقلية مختلفة، العمل الجدي النظام والتنظيم في الحياة… كل هذا يجعل الجزايري يصاب باضطراب عقلي وفكري لان تربيته التي تلقاها في الجزاير لا تساير العصر وهذا ما يصعب عليهم الاندماج في الحياة العامة مع الاجناس الاخرى ومن شب على شيء شاب عليه.
مجرد تساؤل.
مجرد تساؤل. شوفيني أم حاقد !!!؟؟؟ شخصيا فضل ن أكون شوفينيا على أن أكون حاقدا على بلدي. جاء في المقال ما نصه: "حيث إن كل مدينة من مدن البلاد لها صفحتها ولها محبوها ومتابعوها. وهذه الصفحات لا تتحدث إلا نادراً، عن الوضع الصعب الذي يعيش فيه الناس، من انقطاع كهرباء أو ماء، من جرائم أو اغتصابات، بل يهمها أن ترفع من مشاعر الانتماء الضيق، ونلاحظ أن محبيها من ساكنتها، يسرفون في نشر صور مأكولات محلية، والتعليق عليها، كأنها موائد نزلت من السماء، وأنها أشهى ما يأكل الإنسان" انتهى الاقتباس المتتبع للصفحات المحلية على السوشيل ميديا للجزائريين يري أنها مبادرات محمودة، فهي تسهل التواصل بين أفراد المدينة أو المنطقة، ليتشاركوا أفراحهم وأحزانهم، وإبراز خصائص منطقتهم لغيرهم، كما يتخدونها سوقا لاقتناء ومقايضة بضائعهم. وعدم نشر انقطاع الكهرباء والماء والاغتصاب، فهي حالات نادرة جدا في الجزائر الجديدة، وينقلها الإعلام الحكومي والخاص بكل تفاصيلها. ما سلف هو واقع حال الجزائر اليوم الذي وصفه الكاتب بـ "الشوفينية"، وعز عليه أن يخلو من الأخبار السيئة، فأصبح يقض مضجعه، فأراد أن ينقل للغير ما يراه بنظارات الحقد على بلده. أخيرا، الصفحات المحلية ليست بدعة جزائرية، فنجدها في كل بلدان الكرة الأرضية.