جماهير العالم الثالث التي ذاقت بلحمها الحيّ طعم برامج «تصدير الديمقراطية الأمريكيّة» إلى العراق وأفغانستان ويوغسلافيا السابقة وليبيا ، وبلدانا كثيرة في أمريكا اللاتينية ، أتيحت لها هذا الأسبوع فرصة متابعة نسخة حيّة على الهواء مباشرة لأحدث أساليب الممارسة الديمقراطيّة في بلد المصدر ذاته، بعدما اندفعت قوات الشرطة وعناصر مكافحة الشعب والقوى الأمنية ، إلى اجتياح عدة جامعات في شرقي الولايات المتحدة وغربها، واعتقال طلابها – وأحياناً أساتذتها وصحافيين حضروا للتغطية – في سعي محموم لوقف موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، وذلك بالتآمر مع إدارات الجامعات والسلطات المحليّة والفيديرالية.
لكن الطلاب بدوا أصعب من أن يرتدعوا، ولم تأت كل محاولات التضييق عليهم إلا بنتائج عكسيّة، فانتشرت مخيمات التضامن مع غزّة حتى وصلت إلى عشرات الجامعات، وامتنع الطلاب عن حضور الدروس، واستمروا في التظاهر حاملين أعلاماً فلسطينية وهم يعتمرون الكوفيات. وكلما عمدت السلطات إلى إزالة مخيم، أعاد الطلاب بناءه سريعاً، وكلما اعتقلت عدداً منهم ، تضامن معهم عدد أكبر ممن لم يكونوا قد اشتركوا في الاحتجاج منذ البداية ، وكلما حاصرت حرماً جامعياً تمددت الاحتجاجات إلى الجامعات المجاورة له، بحيث يمكن الزعم أن أهم خمس وعشرين مؤسسة أكاديمية نخبوية في البلاد تشهد اضطرابات قد تستمر، وفق التوقعات، حتى نهاية العام الدراسي، وتهدد بأن تصبح مصدر إلهام لطلاب بقية الجامعات والمؤسسات الأكاديمية الأمريكيّة، وربما استقطاب فئات أخرى مثل طلاب المدارس الثانوية، والمنظمات والتجمعات السياسية – التنظيمات اليسارية وحركات السود والمنظمات النسوية والجمعيات الاسلاميّة وغيرها –بحيث تتحول إلى حراك احتجاجي اجتماعي عريض على نسق حركة مناهضة الحرب على فيتنام في الستينيات – والتي تسببت وقتها بانقسام حاد في المجتمع الأمريكي وساهمت بإنهاء الحرب.
من تل أبيب إلى واشنطن فالقارة العجوز: النخب قلقة
البيت الأبيض لم يُخفِ قلقه مما يجري، وأعرب متحدث باسمه في بيان أصدره عن إدانته الصارمة لموجة مزعومة من «العداء للساميّة» في المؤسسات الأكاديمية مشدداً على «أن استهداف اليهود بهذا العداء أمر غير مقبول، ومصدر للخطر، ولن يكون له مكان على الإطلاق في أي حرم جامعي، أو في أي مكان في الولايات المتحدة الأمريكية».
وحسب المحللين، فإن التخوف قائم من أبعاد ثورة طلابيّة شاملة في الولايات المتحدة تتجاوز النخبة الحاكمة في واشنطن إلى السلطات الإسرائيلية التي تستند في استمرار حياتها السرطانية على الدعم الأمريكي غير المشروط، وأيضاً النُّخَبَ الحاكمة في أوروبا، التي تخشى أن تنتقل شرارة الغضب الطلابي إلى قلب جامعاتها.
ويمكن تفهم هذا القلق على ثلاث مستويات، أوّلها أيديولوجي محض بحكم التلازم العضوي للفكر الصهيوني مع منطق الهيمنة الذي يحكم رؤية النخب الغربيّة الحاكمة للعالم، ما يجعل من إسرائيل – الكيان الاستعماري – عجلاً ذهبياً مقدساً، لا يمكن المساس به تحت أي عنوان كان ولو كان الثمن سقوط قناع الديمقراطيّة برمتها والكشف عن الوجه الفاشي البشع لهذه النخب. وثانيها، أن ثورات الطلاب بحسب التجربة التاريخية في الغرب شكلت دائماً نواة لتحركات شعبيّة أوسع، واستقطبت دعماً من فئات طبقية وعرقية ودينية ومهنية نكأ قمع الطلاب جروحها وآلامها المتراكمة، ويمكنها بسهولة – وبغضِّ النظر عن الثيمة الأساسية وراء الاحتجاج – أن تصبح رافعة لغضب مجتمعي شامل ضد كل ما تقف وراءه النخب الحاكمة – بما في ذلك في هذه الحالة اليوم دعم إسرائيل -. أما ثالثها فهو التأثير الكبير لمؤسسات صنع الثقافة في الولايات المتحدة على العالم أجمع، لا سيّما في الفضاء الأنكلوساكسوني وفي الغرب، ودائماً بسبب هيمنة الثقافة الأمريكيّة على الإعلام عبر الكوكب. ولذلك، فإن من شأن احتجاجات الطلاب في جامعات النخبة الأمريكيّة أن تدفع طلاب جامعات في كندا مثلاً أو بريطانيا وفرنسا وأستراليا وإيطاليا وغيرها إما إلى إطلاق احتجاجات موازية، أو إلى تصعيد احتجاجات سبقوا بها منذ بعض الوقت، وربما منها إلى دول أخرى لا سيما في منطقة الشرق الأوسط القلقة حول الكيان العبري: في الأردن، ومصر، وغيرهما، ما قد يغيّر المشهد الدولي حول حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة بشكل كليّ.
الطلاب يريدون سحب الاستثمارات
ولكن بماذا يطالب المُحتجون في الجامعات الأمريكيّة؟ بالطبع فإن العدوان الإسرائيلي الممنهج ضد غزّة مدعاة للإدانة والاحتجاج، وتورط الولايات المتحدة ودول غربيّة في تسليح الكيان وتمويله وتعظيم قدرته على إلحاق الأذى بالفلسطينيين – وجيرانهم العرب في لبنان وسوريا واليمن – وتغطية إجرامه دبلوماسياً في نطاق مؤسسات ما يسمى بالمجتمع الدّولي، هو أمر يستحق أن يُشجب ويُرفض من كل ذي ضمير. على أن طلاب جامعات النخبة الأمريكية، حددوا مطالب عملية لهم ورفعوها إلى جامعاتهم الثريّة التي يدير كل منها صناديق استثمارية هائلة، وأبرز تلك المطالب: سحب كل استثمار في شركات إسرائيليّة، أو شركات تستثمر في إسرائيل، أو شركات تتولى تصنيع السلاح وبيعه إلى الدّولة العبرية، وكذلك وقف التعاون الأكاديمي والبحثي مع المؤسسات الإسرائيليّة. وقد تكررت هذا المطالب على اللافتات التي يحملها المحتجون، وفي افتتاحيات الصحف الطلابية، وتحدث بها الخطباء في مخيمات ا»لتضامن مع غزة «التي انتشرت في الجامعات.
ولربما يقلل البعض من وجاهة هذه المطالب وتأثيرها إن نُفِّذَتْ – وهو أمر تستبعده الجامعات في هذه المرحلة – لكن معرفة أعمق بهيكلية منظومة التعليم النخبوي الأمريكي، وحجم الاستثمارات المالية الضخمة التي بحوزة الجامعات الكبرى، كما دورها الأساسي في تطوير البحث العلمي والتقني في المجالات التي تمنح الغرب تفوقه الموضوعيّ على العالم، تعني وكأن الطلاب المحتجين إنما يطالبون فعليا بتغيير النظام.
إليكم مثلاً بعض الأسماء التي قد تطالها التأثيرات السلبية إن خضعت الجامعات لمطالب تلاميذها:
غوغل، التي لديها عقد ضخم مع الحكومة الإسرائيلية لتزويدها بخدمات إليكترونية.
بوينغ التي تصنّع طائرات ومعدات عسكريّة تزود بها الجيش الإسرائيلي.
إير بي أن بي التي تروج لبيوت الإقامة السياحية القصيرة في المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية التي تعتبرها الأمم المتحدة مناطق محتلة في الضفة الغربيّة.
كاتبيلر التي تزود الجيش الإسرائيلي والشركات الإسرائيلية بالجرافات والبلدوزرات ومعدات ثقيلة توظف في تحطيم منازل الفلسطينيين وبنى مدنهم التحتية.
بلاك روك، أكبر شركة صناديق استثمارية في العالم والتي توفر رؤوس الأموال للعديد من مقاولي الدّفاع، وشركات تصنيع الأسلحة التي تصدّر إلى (إسرائيل) مثل رايثون، ولوكهيد مارتن وجينرال دايناميكس وغيرها.
ومع أن الجامعات لن تتراجع بسهولة عن استثماراتها المربحة تلك، إلا أن الطلاب يستشهدون بقصة نجاح سابقة خلال ثمانينيات القرن الماضي عندما فرضت التحركات الطالبية على الجامعات سحب استثماراتها من الشركات ذات المصالح المباشرة مع نظام الفصل العنصري الذي كان يحكم جنوب أفريقيا، وهو ما حدث وقتها بالفعل، وأسهم بشكل أو آخر في رفع الغطاء عن حكام بريتوريا البيض ودفعهم بالمحصلة إلى هاوية السقوط.
هذا الربيع ما زال في أوله:
ومهما يكن من أمر، فإن هذا الحراك النبيل في قلب إمبراطورية الهيمنة الأمريكيّة، ما زال غضاً وفي أيّامه الأولى، وقد يكبر ويتعاظم ويزهر ويؤتي ثماراً، أو ربما ينتهي بقمع دموي – لن تتردد النخبة الحاكمة عن ممارسته – وقد لا تطيقه الأعمار الصغيرة. لكن الحقيقة أن مجرّد ظهور إرهاصات هذا الربيع تعيد لنا كثيراً من الأمل بأن أشرار هذا العالم لن ينتصروا بسهولة كما ظنوا وتعشموا، بل سيواجهون مقاومة طاحنة، ربما يبدأ مسرحها من خان يونس لكنه لا ينتهي عند حرم جامعة كولومبيا.
ندى حطيط
تعليقات الزوار
لا تعليقات