أخبار عاجلة

الطائرات الورقية متنفّس للأطفال من آلام الحرب ومصدر رزق للكبار

لم يعد هنالك متنفّس لأطفال قطاع غزة في مناطق النزوح سوى اللعب بـ “الطائرات الورقية” التي يصنعونها يدوياً، يهربون باللهو بها قليلاً من ويلات الحرب وآلامها، بعد أن شلّت هذه الحرب التي تشنّها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد القطاع، منذ أكثر من أربعة أشهر، كل مظاهر الحياة، وأصابت السكان، وفي مقدّمتهم الأطفال، بصدمات عصبية ونفسيه كثيرة.

تزيّن سماء النزوح

وفي مناطق النزوح القسري، غرب مدينة رفح، حيث تقيم آلاف العوائل التي فرّت هرباً من نيران الحرب والتوغّل البري، تعلو هناك، في سماء تلك المنطقة، الكثير من تلك الطائرات الورقية التي يقضي الأطفال هناك وقتهم في اللعب بها، يروّحون بها عن أنفسهم، وهو يسمعون أصوات القصف القريب الناجم عن غارات إسرائيلية تستهدف مدينة خان يونس، وتصاعد الدخان منها.

أمام المسكن الجديد لعائلة صلاح، وهو خيمة أقيمت وسط تجمّع نزوحٍ عشوائي قرب حيّ تل السلطان، غرب مدينة رفح، وَضَعَ الطفل أنس (14 عاماً) على الأرض قطعةَ قماش جلبها من داخل الخيمة، وبجواره كان هناك مستلزمات عمل تلك الطائرة.

بعض الأعواد المتشابهة في الطول والوزن والشكل، وبعض الأوراق، وقليل من الخيوط، ولاصق بلاستيكي، هذه كانت كل أدوات العمل التي احتاجها هذا الطفل، لصنع طائرته الورقية.

بطريقة هندسية تعلّمَها الطفل أنس، بدأ بشدّ الخيوط من منتصف الأعواد الخشبية، حتى أوصلها إلى الحواف، ومنها بدأ بربط تلك الأطراف ببعضها البعض، وما أن فرغ من هذا العمل، الذي يحتاج إلى تركيز، وحسابات دقيقة، من خلال جعل كل الأطراف متساوية في الطول، حتى بدأ بتغطية الهيكل الخشبي للطائرة، بقطع من الورق.

كان هذا الطفل محظوظاً عن غيره، بأن كان من بين مقتنيات أسرته، التي جلبتها في رحلة النزوح القسري من منزل العائلة وسط قطاع غزة، قطعة ورقة ملونة، فاستغلها في تغطية الهيكل الرئيس، فيما استعان ببعض الورق العادي المخصص للكتابة، في صنع ذيل الطائرة.

وبين الحين والآخر، وخلال صُنع هذه اللعبة، كان الطفل وغيرُه من أصدقاء النزوح، ينظرون إلى السماء حيث كانت تعلو فيها عشرات الطائرات الورقية بأحجام وألوان مختلفة، وكان في ذلك الوقت يمرّ بهم أقران لهم يحملون ألعابهم، ويتّجهون إلى ساحة قريبة بعيدة عن ازدحام الخيام، لإطلاق العنان لألعابهم حتى تركب الهواء وتحلّق عالياً في الجو.

ولم يدم الأمر طويلاً على هذا الطفل ومن كان برفقته خلال وقت صنع الطائرة الجديدة، حتى هبّوا مسرعين يحملون لعبتهم الجديدة إلى تلك الساحة، ولم يمضِ سوى بعض الدقائق القليلة، حتى حلّقت تلك الطائرة كغيرها في السماء، وعلى الأرض ينظر إليها الطفل أنس وهو يشدّها بخيط مقوى، ويتحكّم في علّوها أو انخفاضها.

وليس بعيداً عن المكان، كان هناك أطفال آخرون أصغر سنّاً يلهون بتلك الطائرات، صَنَعَها لهم آباؤهم أو إخوتهم الأكبر سناً، الذين لهوا بمثل هذه الألعاب في أوقات طفولتهم، التي لم تكن فيها حروب مثل هذا الوقت.

وقد رافق علاء أبو سالم (25 عاماً) شقيقه عمر ذا العشر سنوات، خلال رحلة اللعب بالطائرة، وقال هذا الشاب لـ “القدس العربي” إن شقيقه ألحّ عليه كثيراً لصنعها، عندما رأى أطفال مخيم النزوح يلهون بمثلها.

ويشير هذا الشاب، الذي نزح إلى مدينة رفح مجبراً، بناءً على تهديد إسرائيلي لسكان شمال قطاع، إلى أنه أعاد ذكريات طفولته وهو يصنع تلك الطائرة، لكنه قال إن فترة لهوه خلال طفولته بتلك الطائرات لم تكن تشهد حرباً بهذا الشكل، ولا بمثل هذه المدة الطويلة، رغم إشارته إلى أنه عايش في طفولته وحتى شبابه العديد من الحروب والتصعيدات العسكرية ضد قطاع غزة، وقال ربما الوالد لم يكن قد عاش ظروفاً في طفولته كما عشنا.

مصدر رزق

وقد شوّش على حديثه صوتُ طائرات حربية إسرائيلية نفاذة، اخترقت سماء المنطقة، وهي تتجه صوب مدينة خان يونس المجاورة، لتعلو بعد ذلك أصواتُ انفجارات قوية، ناجمة عن شنّ تلك الطائرات غارة جوية.

 

أمضى الشاب علاء حديثه يقول: “بشكل دائم نسمع هذه الغارات، حتى في وقت اللعب الحرب بتلاحق الأطفال”.

ويخشى هذا الشاب، كغيره من سكان مدينة رفح، من تنفيذ الاحتلال عملية برية، بعد أن تصاعدت مؤخراً لهجة التهديدات التي أطلقها قادة الاحتلال تجاه المدينة التي تعدّ أكبر مأوى للنازحين، ما قد ينجم عنه مجازر أكثر دموية تطال المواطنين، وفي مقدّمتهم الأطفال.

وقد حذّرت عدة منظمات دولية ودول غربية من خطورة تنفيذ التهديدات الإسرائيلية تجاه المدينة.

وليست وحدها تلك المنطقة التي تعلو سماءها تلك الطائرات الورقية، ففي المنطقة الحدودية الجنوبية لمدينة رفح، القريبة من الحدود مع مصر، وفي تجمع نزوحٍ عشوائي، يلهو الأطفال بهذه الألعاب أيضاً.

وقد دفع ذلك بالكثير من الشبان إلى امتهان عمل صنع تلك الطائرات وبيعها، لتوفير مصدر رزق ولو قليل لهم ولأسرهم، بعد أن باتت هذه اللعبة هي الوحيدة المتوفرة للأطفال في هذا الوضع.

وأمام خيمة النزوح يضع صانعو هذه الألعاب منتجاتهم ويعرضونها للبيع، لمن لا يستطيع صنعها، أو من لا يملك الأدوات التي تحتاجها.

ويوضح أحدهم لـ “القدس العربي” أنه باع في يوم واحد أكثر من 20 طائرة لأطفال يقيمون مع عوائلهم في خيام النزوح، ويشير إلى أن ثمن الطائرة مرتبط بحجمها، فيبيع الأصغر بثمن أقل من الطائرة ذات الحجم الكبير.

وبالمتوسط يبلغ ثمن الواحدة 20 شيكلاً (الدولار يساوي 3.8 شيكل)، ويزيد بعضها عن هذا الثمن، ويحتاج صنعها إلى بعض الأدوات التي يشتريها هذا الشاب من السوق.

ويقول هذا الشاب إن هناك شباناً في العشرينات يلهون أيضاً بهذه الألعاب، وقد أشار إلى جارٍ قريب اشترى منه إحدى الطائرات.

ذلك الشاب، ويدعى محمد عيسى، الذي يلهو بتلك الطائرة الورقية، كان ممن اعتادوا على اللعب وقت الفراغ بألعاب الكترونية، ويوضح لـ “القدس العربي” أن ما اضطره لإمضاء بعض الوقت بهذه اللعبة، هو عدم قدرته على اللعب بالطريقة السابقة.

ففي منطقة نزوحه لا تتوفر أيّ شبكة إنترنت توفّر له اللعب التشاركي مع آخرين، كما أن ظروف شحن بطارية الهاتف الصعبة، التي تكلّفه جهداً ووقتاً ومالاً، تجعله لا يُقبل على اللعب كثيراً بتلك الألعاب المخزّنة على ذاكرة هاتفه النقال.

وبسبب الحرب وتدمير قوات الاحتلال لشبكات إمداد الطاقة، ومن قبل منع دخول لوقود لمحطة التوليد، لم يعد هناك تيار كهربائي متوفر للسكان، ويستعين البعض بألواح الطاقة الشمسية التي تحوّل أشعة الشمس إلى طاقة، توفر لهم تشغيل بعض الأجهزة الكهربائية الصغيرة، ومنها شحن بطاريات الهواتف، وقد وجد شبان في الأمر مهنة، يقومون خلالها بشحن الهواتف مقابل المال.

كما حرم شبان وأطفال غزة من اللهو بألعاب رياضية أخرى، فلم يعد متاحاً لمن يتواجدون في مناطق النزوح اللعب بالكرة، حتى في الشوارع، بسبب الازدحامات الشديدة، فيما أغلقت النوادي والملاعب الرياضية بسبب ظروف الحرب.

لعب البنات

وقد لاحظت “القدس العربي” أن الكثير من البنات صغيرات السن، يخصّصن وقت اللعب في منازل النزوح إما بعلب “الحجلة”، وهي لعبة تقوم على القفز عبر مربعات مرسومة على الأرض بطريقة معينة، أو باللعب بدمى جُلبت من منازلهن قبل النزوح، أو جرى صنعها يدوياً من قبل أمهاتهن.

وفي باقي مناطق قطاع غزة، وتحديداً في مدينة غزة والشمال، وكذلك في مدينة خان يونس، لا يستطيع هناك لا الأطفال ولا الشبان اللهو في الشوارع، ولا حتى اللهو بالطائرات الورقية، حيث لا تحلّق هناك سوى الطائرات الحربية الإسرائيلية التي تشن غارات جوية دامية ومدمرة على مدار الساعة.

وفي أوقات سابقة، أكّدت العديد من المنظمات الدولية التي تنشط في قطاع غزة، إنه لا يوجد مكان آمن في القطاع، بعد استهداف الجيش الإسرائيلي للكثير من مناطق النزوح ومراكز الإيواء.

وتجدر الإشارة إلى أن الحرب الدامية أوقفت المسيرة التعليمية، ولم يتجّه أطفال غزة لمقاعد الدراسة منذ اليوم الأول للحرب، في السابع من أكتوبر من العام الماضي، وهو أمر انطبقَ أيضاً على الشبان حيث أغلقت الجامعات أبوابها.

وخلال الحرب تعمّد جيش الاحتلال تدمير عشرات المدارس، كما تعمّدت تدمير الجامعات، من خلال استهدافها بالطائرات الحربية، أو من خلال نسفها بالمتفجرات.

وفي تلك الأماكن كان أطفال غزة وشبانها يجدون متنفساً، في اللهو بحصص التربية الرياضية في المدارس، أو في مقابلة الأصدقاء وقت الفراغ في الجامعات.

وتوضح أرقام الإحصائيات أن عدد الأطفال الشهداء الذين سقطوا خلال الحرب بالنيران والصواريخ الإسرائيلية كان الأكبر من بين العدد الإجمالي للشهداء، حيث يفوق عددهم ثلث العدد الإجمالي.

وقد قضى خلال الحرب أطفالٌ رضّع وآخرون في مقتبل العمر، وهناك أطفال كثر فقدوا أسرهم بالكامل، وباتوا وحيدين في هذه الحياة.

ويفوق عددُ الشهداء الذين سقطوا خلال الحرب الـ 27 ألف شهيد، فيما يفوق عدد الإصابات الـ 67 ألفاً، ولا يزال هناك أكثر من 8 آلاف مفقودين تحت الركام وفي الطرقات.

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات