بعد أقل من يوم على مهاجمة قاعدة للجيش الأمريكي في شمال شرق الأردن من قبل مليشيات مؤيدة لإيران، تسببت بموت ثلاثة جنود أمريكيين، هوجمت قاعدة أخرى شمالي سوريا بعدة قذائف أطلقتها المليشيات. في الوقت نفسه، تستمر هجمات الحوثيين على وسائل الملاحة التجارية وعلى سفن التحالف البحري في البحر الأحمر، رغم الهجمات الأمريكية على قواعد الحوثيين في اليمن. وعد الرئيس الأمريكي أول أمس بأن بلاده سترد بقوة وسريعاً على الهجمات. في الوقت نفسه، أعلن المتحدث بلسان البيت الأبيض، جون كيربي، أن الولايات المتحدة لا تريد توسيع المعركة أمام إيران، وأبلغ عن محادثات في باريس بمشاركة رؤساء أجهزة المخابرات بهدف التوصل إلى صفقة جديدة لإطلاق سراح المخطوفين.
تجد واشنطن نفسها في حرب ثانوية، ثابتة ومرهقة، أمام تنظيمات ومليشيات وليس أمام دول. تتسبب الحرب بأضرار كبيرة لاقتصاد دول المنطقة، التي أدركت أن استعراض الردع الأمريكي لا يحقق أي نتائج حقيقية. بعض الدول، من بينها مصر والسعودية والإمارات، بدأت في خطوات “خاصة”، غير منسقة مع الولايات المتحدة، ليس فقط مع التنظيمات، بل أيضاً مع إيران. أول أمس، نشر موقع “العربي الجديد” أن رجال مخابرات من مصر توجهوا لقيادة الحوثيين وطلبوا منهم الاكتفاء بهجمات متفرقة تُوجه فقط ضد السفن التي لها علاقة بإسرائيل، إعلان نيتهم المس بهذه السفن فقط. وطلبوا منهم أيضاً تقديم ضمانات علنية بألا يتم المس بالسفن الأخرى. وهو طلب من أجل تقليص حجم الأضرار التي أصابت الملاحة في البحر الأحمر، بالأساس مصر، بعد أن انخفضت حركة الملاحة في قناة السويس 40 في المئة تقريباً. وحسب التقرير، رفض الحوثيون هذا الطلب رغم أن إيران كانت مشاركة في المحادثات، وأن مصر ليست عضوة في التحالف البحري الذي شكلته الولايات المتحدة لضمان الملاحة في البحر الأحمر.
السعودية من ناحيتها، تواصل القيام بخطوات دبلوماسية تهدف للمضي باتفاق السلام بينها وبين اليمن الحوثي، هذا بعد أن تم التوصل إلى خطة متفق عليها تسمح باستخدام كامل لميناء الحديدة الذي يسيطر عليه الحوثيون، والذي كان تحت الحصار طوال سنوات الحرب، وأيضاً تشغيل مطار صنعاء. إضافة إلى ذلك، تشمل الخطة مساعدات اقتصادية من السعودية تضم دفع الرواتب التي يجب على حكومة اليمن الرسمية أن تدفعها لموظفيها العاملين في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. هذا الاتفاق غير النهائي يوفر للسعودية اليوم مظلة حماية من هجمات الحوثيين، والافتراض أن إيران، التي أعلنت أنها غير مسؤولة عن نشاطات الحوثيين ونشاطات المليشيات المؤيدة لها، هي التي تعطي للسعودية الضمانات كي لا تتم مهاجمتها.
كانت الإمارات الدولة الأولى التي حمت ظهرها من هجمات الحوثيين. فقد سحبت قواتها من اليمن في نهاية 2019 ووقعت على عدة اتفاقات تعاون مع إيران، وفي صيف 2021 استأنفت العلاقات الدبلوماسية معها بالكامل. قطر حليفة قديمة لإيران، ليس فقط بفضل الشراكة بين الدولتين في حقل الغاز الأكبر في العالم، “فارس الجنوبي”؛ الذي وقعت الدولتان على اتفاق لاستمرار تطويره في أيار السنة الماضية بمبلغ 10 مليارات دولار. وقد كانت إيران وتركيا أنبوب الأوكسجين الرئيسي لقطر أثناء الحصار الاقتصادي الخانق الذي فرضته عليها السعودية والإمارات ومصر والبحرين في العام 2017 والذي استمر طوال أربع سنوات.
غطاء العلاقات، الذي نسجته إيران مع دول الخليج، والذي كانت ذروته في آذار 2023 عندما استأنفت علاقاتها الدبلوماسية مع السعودية إلى جانب جس النبض لاستئناف علاقاتها مع مصر، يخلق حزام أمان يعتبر جزءاً من معادلة الردع التي تحاول الولايات المتحدة إقامتها بعد انتهاء الحرب في قطاع غزة. والنتيجة أن أي عملية تنوي واشنطن القيام بها ضد إيران تواجه بحاجز الدفاع الذي توفره لها دول الغلاف العربية.
لميزان الردع هذا جوانب سياسية؛ فعندما قررت الولايات المتحدة مهاجمة قواعد المليشيات الشيعية في العراق، بعد أن هاجمت الأخيرة 150 هدفاً أمريكياً في سوريا والعراق منذ بداية الحرب، طلب رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني من الإدارة الأمريكية سحب الـ 2500 جندي أمريكي من العراق. وردت الولايات المتحدة في البداية أنها لا تنوي سحب قواتها، وأنها موجودة في العراق في إطار الحرب ضد “داعش”. ولكن عقدت السبت الماضي الجلسة الأولى للطواقم المهنية، العراقية والأمريكية، لمناقشة الجدول الزمني وترتيبات انسحاب القوات.
إذا تم الاتفاق على انسحاب القوات فسيعتبر هذا نجاحاً فعلياً للمليشيات المؤيدة لإيران ولإيران عموماً. وهذا قد يكون له تأثير على طلب انسحاب القوات الأمريكية من سوريا أيضاً، حيث 900 جندي أمريكي. الولايات المتحدة تعمل في سوريا بالتعاون مع الأكراد كجزء من الحرب ضد “داعش”، وخلال ذلك تقدم الحماية للأكراد من توق سوريا لتعميق سيطرتها على الأقاليم الكردية في سوريا.
في شرنقة العلاقات هذه التي تقيد قدرتها على الرد الكامل والمباشر ضد إيران، تحاول واشنطن التفاوض مع طهران حول تهدئة المنطقة. في 8 كانون الثاني، قال السفير الإيراني في سوريا، حسين أكبري، في إحدى المقابلات، إنه “قبل عشرة أيام، بعثت الولايات المتحدة رسالة لإيران من خلال دولة خليجية، (لم يذكر اسمها) تفيد بأن واشنطن معنية بتسوية شاملة في المنطقة، وليس فقط التوصل إلى حلول جزئية”. إذا كانت هذه الأقوال صحيحة، لم يتم نفيها حتى الآن، فهي خطوة تتجاوز الرسائل المرسلة لطهران بواسطة سفارة سويسرا في طهران، والتي تمثل الولايات المتحدة. حتى الآن، تم نقل تحذيرات وتهديدات ضد أي تدخل عسكري إيراني في المنطقة.
وثمة تقارير أخرى تتحدث عن أن التدخل الدبلوماسي الكثيف من قبل السعودية وسلطنة عُمان وقطر، ينقل رسائل بين إيران والولايات المتحدة. فالسعودية تشارك أيضاً في العملية السياسية في لبنان بهدف إنقاذ الدولة من أزمتها السياسية والاقتصادية منذ 2019. يبدو أن الرياض تحولت إلى شريكة في الحوار مع طهران، وأنها ستكون مستعدة لتليين المواقف فيما يتعلق بحزب الله، ما دام هذا الأمر مطلوباً من أجل التوصل لمصالحة سياسية حول تعيين الرئيس وتشكيل حكومة جديدة في لبنان؛ ومن أجل تسوية قضية الحدود بين إسرائيل ولبنان بصورة تبعد تهديد مواجهة واسعة بين إسرائيل وحزب الله. المشكلة أن هذه التطورات، التي هي وليدة الحرب في غزة، جاءت لتجد الولايات المتحدة بدون خطة منظمة؛ فهي تلزمها بتحديد استراتيجيتها حسب ردود إيران ونشاطات المليشيات التي تخلق بواسطة الهجمات التكتيكية واقعاً سياسياً جديداً.
تعليقات الزوار
لا تعليقات