عادت قصة «حيزية»، التي تتأرجح دوما بين الحقيقة والخيال للواجهة عبر الجدل الكبير الذي «خلقه» الروائي الجزائري واسيني الأعرج، بعد نتائج تنقيبه في ذاكرة المسنين بمرابع قبيلة «حيزية»، وأن هذه الأخيرة قتلت مسمومة.
واسيني، الذي يحضر لروايته الجديدة، وبعد تحرياته، ضمن ما يعرف بـ»الأدب الاستقصائي»، الذي قام به، لم يشكك في سبب وفاة «جولييت» الجزائر، بل شكك في حبيبها «سعيّد»، وشكّك في ناظم قصيدتها، وأنه ليس مجرد شاعر كتب قصيدة رائعة، تنبض حزنا وشهوة وشهيقا، بل ربما «بن قيطون» هو العاشق المتيّم، في سنه المتقدّمة ومكانته الدينيّة. ويذّكر الأعرج قراءه عبر صفحته على فيسبوك، بما كتبه سابقا حول اغتيال «حيزيته» (هذه المقالة نشرت في يناير/كانون الثاني 2023 إكراما لحيزية، التي سمموها وهي لم تتم السنة الثالثة والعشرين من عمرها، ويمشون اليوم في جنازتها، وكأن شيئا لم يكن، بلا قلب ولا ذاكرة. لك الرحمة والسلام يا ضحية الضغينة والجريمة والأحقاد).
وحيزية – حسب ما ورد في مقال واسيني المذكور – كانت ضحية الصراع القبلي والسياسي «حيزية لم تنتحر ولم تقتل بالخطأ، ولكن موتها جاء نتيجة صراع سياسي بين قبيلتين كبيرتين تنازعتا منصب «شيخ العرب»، الذي كان قد أستأثر به «الذواودة»، على الرغم من تواطؤ «أحمد باي» مع أبناء خالته من «آل بنقانة». ولأن التاريخ يصنعه «الرجال»، لكن للنساء اليد الخفية فيه، وبدافع الغيرة، التي تغير مجرى التاريخ والأحداث، وليست مجرد حالة نسائية مرضية يواصل «واسيني» في سرد ما أخبرته به «نانة شامة»: «في المقابل أصبح طريق الانتقام سهلا ضد «حيزية»، التي أثارت خطبتها غيرة نساء آل بنقانة: ماذا وجد فيها عبد الغني من ميزات غير متوفرة في نسائهم؟
الفرصة كانت مناسبة لوضع سم لها مستخلص من سم العقارب السوداء، بلا رائحة ولا مذاق، من طرف امرأتين زارتاها لتباركان لها العودة من رحلة الشمال الصيفية، بعدما ارتحلت القبيلة من جديد باتجاه «سيدي خالد»، بدأ السم يفعل فعلته. ولم يتمكنوا من إسعافها، وماتت بين ذراعي «سعيد» المطرود من حضن الذواودة، بعدما انتشر خبر عشقه لـ»حيزية». ومع هذا ما زلنا نطرح اليوم مع «الروائي» من هو حبيب «حيزية»، وهل حدثت علاقة بين معلم القرآن شاعر عرش «البوازيد» (بن قيطون)، هذا الذي أوصل الجدل إلى منتهاه على منصات التواصل الاجتماعي، وليس موت «حيزية» بالسم. عن حبيب «حيزية» الذي أصبح «مفترضا» ولا يمكن أن يكون «سعيد»، الذي لا أثر له في القصيدة، بعدما قرأها الكاتب «واسيني» بتمعن 50 مرة، ينحو الأستاذ محمد نور الدين جباب منحى «واسيني» من خلال ما كتب عن الموضوع، على صفحته على فيسبوك، متسائلا بدوره «هل كان سعيد عاشقا؟
والذي، يستخلص من المنشور أنه «من طينة تختلف عن طينة العشاق والعاشقين». وأضاف الأستاذ «جباب» أن قصة «حيزية» ذكرته بحكاية تقول إن أحدهم طلبوا منه أن يشرح لهم قصة سيدنا يوسف، فقال لهم «ولد صغير تبحر ولقاوه» (ولد صغير ضاع فوجدوه)» كذلك قد تتلخص قصة «حيزية» في جملة واحدة قصيرة تقول»واحد حب وحدة»، لكن الشاعر الشعبي «بن قيطون» جنح بخياله بعيدا فتحولت القصة إلى أسطورة توارثتها الأجيال»، يضيف الاستاذ جباب.
«حيزية» أيقونة تُرجم بـ«العار» والعنصرية
من يعرف أحمد لمين، الباحث الفذ في الأدب الشعبي، يجعله يقر مع ما ذهب إليه الأستاذ جباب والأستاذ عبد الحميد بورايو، في أنه قد يحل اللغز و»هو أحسن من يتحدث عن «حيزية»، فهو ابن المنطقة والمتخصص في الأدب الشعبي، ما زلت أذكر في نهاية الثمانينات أو بداية التسعينيات، يقول جباب، وكنا في مطعم مع أصدقاء من الأدب العربي، وكان الحديث عن سعيد، وبعبارات قاسية عن سلوكه وتصرفاته وأخلاقه تجعل سعيد هذا من طينة أخرى تختلف عن طينة العشاق والعاشقين»، ودائما على ذكر أحمد لمين كنا (كاتبة المقال) في ملتقى حول «بني هلال» في بداية التسعينيات، وبعد انتهائه من محاضرته حول «حيزية» الهلالية، قام أحد الشباب موجها سؤاله و»تصحيح معلومة» – على ما يبدو للأستاذ لمين – بأن جدته أخبرته أن «حيزية» لم تكن جميلة، كما صورها الشعر ونقلتها الحكايات، بل كانت «سوداء كالمعزة»، ولهذه الفكرة دوافعها الاجتماعية والثقافية، كما وجدها المرحوم الأستاذ أحمد لمين، وعلى لسانه، حسب منشور الأستاذ «بورايو» على صفحته على فيسبوك، وموازاة مع القصة التاريخية، وباعتبار أن «حيزية» و»سعيد» شخصيتان تاريخيتان، وجدتا دما ولحما، ينتميان لعرش «الذواودة»، وهما من «البوازيد»، الذين يعود أصلهم إلى رياح، إحدى قبائل بني هلال. هناك قصص أخرى ذات طابع أسطوري، منها القديم والمتوارث في الأوساط الشعبية، ومنها المصنوع من طرف الدارسين المحدثين.
من بين هذه الأساطير الشعبية ما سمعته شخصيا في «بوسعادة» من أن «حيزية» كانت امرأة زنجية، وكأن للجمال لون معيّن أو أن الجماعات السوداء في الجزائر تريد بدورها أن يكون لها نصيبها في أسطورة الجمال الخالد، فتتبرك بطلسمه. أو أن نساء الجماعات البيضاء، خشية منهن تراجع تسامح المجتمع مع قصة الحب هذه – والتي قبل المجتمع أن يتداولها أفراده في مختلف الأوساط، بما فيها الأوساط المحافظة – رحن ينسبنها للآخرين (السود) الذين قد يقبل منهم ما لا يقبل من «النحن» (البيض) وكأنهن يردن بذلك رقيتها أو تعليق طلسم لها يطرد عنها النوايا السيئة»!
ودائما، حسب المرحوم أحمد لمين، فإن الشعراء الشعبيين كانوا يبنون قصائدهم على منوال قصائد الشعر الجاهلي، وكانوا يستلهمون من قوالبه، في بناء القصيدة، بداية بالمقدمة الطللية، ثم نحت تمثال جسد المحبوبة بدقة، وختامها بالمحراب والتعابير الدينية المقدسة.
وعن هذا البناء، الذي يستلهم منه الأدب الشعبي الجزائري يقول الاستاذ عبد الحميد بورايو من خلال مساهمته في النقاش والجدل حول «حيزية»: «هكذا تشكلت صورة «حيزية»، وكأنها هيكل تمثال آلهة الجمال الجزائرية، كما تصورها «بن قيطون»، وهي لا تختلف في صفاتها عن «أفروديت» (اليونانية) أو»فينوس» (الرومانية) أو «إيزيس» (المصرية) أو «العزّى» (العربية)، آلهات الجمال في الحضارات الشرقية القديمة.
وقد أصبحت هذه الآلهات جميعا بطلات كثير من الأساطير، نسجت حولهن بعد أن عبدن في المعابد، وأديت لهن طقوس الإعجاب والتسليم. ويضيف بورايو، وها نحن نجد في الثقافة الشعبية الجزائرية انتقالا من مرحلة عبادة التمثال وتقديسه إلى مرحلة صنع الأساطير حوله، ولكنها أساطير تختلف عن أساطير الثقافات العتيقة، تعبر عن نفسية الإنسان الجزائري في القرون الأخيرة من حياته».
وبعد كل هذا الجدل الخصب، قد يقف القارئ على مفارقة عجيبة ـ فإذا كانت أصابع الاتهام توجه للمجتمع الأبوي، الذي «قهر» الشابة «حيزية»، إلا أن ذلك كان بأيدي النساء، وهن من غيرن مسار الحكاية والتاريخ وعجن الحبكة المستعصية، وهن من كشفن الجديد في الحكاية بروايات جديدة.
استطاع «بن قيطون» – سواء بإملاء من «الحبيب المزعوم» أم من قريحة الشاعر الولهان – أن يدخل «حيزية» التاريخ الاجتماعي والثقافي والرمزي، ويخرجها من أتون الصراع السياسي، الذي لا يعرف «حبيبا» ويكفيه فخرا ورمزية أنه منحها فضاء مكثفا بالمعاني والألغاز، لتدخل المجتمع الإنساني والأكاديمي والإبداعي من أوسع الأبواب.
مريم بوزيد سبابو
تعليقات الزوار
لا تعليقات