كثيرا ما يخطئ المثقف المسيس في الجزائر في الاعتقاد بأن الصراع السياسي مع السلطة هو الأعقد في عملية الوصول إلى الحكم وإمكانية بسط مشروعه وتصوره للوطن والكون، ضاربا بشي من الاستخفاف واللامبالاة صفحا عن المجتمع وسلطته التاريخية التي راكمها بفعل تجربته، قبل أن يستفيق على صدمة الحقيقة الضدية لذلك التصور، وهذا نابع أساسا من مدلول ومفهوم المثقف الذي يحمله عن نفسه بوصفه ظاهرة “غيبية” غير متصلة، فيما عدا الانتماء البيولوجي والعرقي، بهذا المجتمع، بل قد يتبرأ من ثقافته وتاريخيه، بحسبانهما تجربة خاطئة بمسارات كلها فاشلة، وعليه فإن التراكم التاريخي لهذا المجتمع لا يصلح لتأسيس مشروع المستقبل، من هنا قدرنا منشأ الخطيئة ومبدأ ومنتهى الانتكاسة عند النخب السياسية الجزائرية المثقفة، وفشلها في تجاوز محنة اللا مشروع كبديل عن انهيار مشروع دولة الاستقلال.
من تلكم النماذج نور الدين بوكروح المثقف السياسي الذي عارض السلطة ثم “غارضها” أي لما أن وجد غرضه فيها التحق بها كوزير للتجارة لمدة أربع سنوات ثم عاد بعدها ليعارض مجددا الكل سلطة ومجتمع وتاريخ الجزائر.
ففي أحد حواراته التلفزيونية مع قناة جزائرية تمادى بوكروح في عشوائه النقدي التاريخي السياسي للجزائر ليمتد به إلى المجتمع بدل سلطته السياسية، حيث اعتبر أن الوجود الوطني للمجتمع السياسي خاطئ في التاريخ، خالصا إلى أنه لا حقيقة تاريخية للكينونة الوطنية التي لا يمكنها أن تتجسد إلا في نظام وانتظام هرمي سلطوي للدولة مهما كانت طبيعة هاته الدولة وأساليب ممارستها للحكم، ضاربا بذلك مثلا بملكية المغرب البلد الذي حسبه يمتلك مرجعية هذه “الدولة – السلطة” ما يجعل له حضورا في التاريخ.
كنا قد أشرنا فيما مضى من مقالاتنا إلى الخطأ المنهجي في نقد تجربة الوجود الوطني وأزمة قيام ونشوء الدولة في الجزائر بالتغاضي عن سلطة المجتمع لصالح مجتمع السلطة، أي بالانزياح أو التعامي – أحيانا – عن ضرورة استحضار والتعامل من العناصر التاريخية التي حالت دون التحول من مجتمع الدولة إلى دولة المجتمع أو من سلطة الجماعة إلى جماعة السلطة، أخذا في ذلك بعين الاعتبار كل الملابسات والعناصر التاريخية التي فرضت باستمرار منطقها في سيرورة تشكل السلطة ومنطق الدولة في الكيان الوطني.
واعتبرنا أن الظروف التي صنعت الدولة الوطنية في المحيط العربي كله، كانت خارج إرادة وعييه حتى عند الدول التي رُسم لها وجود وانتماء من خلال الأسر المالكة وسلالتها السارية إلى اليوم.
وربما يدرك بوكروح أولا يدرك بأن ما قد يؤسس للوجود الوطني في مقامه الأول هو وجود مجتمع متماسك في أفاق وحدته وسمات حضوره التاريخي، والجزائر المجتمع كانت دوما عصية عن الاحتواء السلطوي غير المعبر عن النفسية والخلفية التاريخية والحضارية للمجتمع، سمة كهذه اعتبرناها أساسا مرجعيا للكينونة الوطنية وخير من كان ق عبر عن ذلك الرئيس الراحل أحمد بن بلة في إحدى تصريحاته أياما قبل وفاته “ليس سهلا أن تحكم الجزائريين”.
لكن لمَ هذا الاستخفاف بالعمق التاريخي لسلطة المجتمع المؤسسة على خلفية تجربته الثائرة ضد كل أشكال السلطة المشكلة فوقيا والتي يراها بوكروح وأمثاله الأساس الأمثل بل الأوحد للاعتراف بالحضور في باحة الأمم – الدول الدائمة في التاريخ؟
مشكلة مثل هذا النموذج من المثقفين المسيسين هو أن فشلهم في استحضار مشروع سياسي وطني يقوم أساسا على مقتضيات مجتمعية ذاتية خاصة تنبع، كما أسلفنا، من حقيقة التجربة المجتمعية للشعب، جعلهم ينتقلون من معارضة سياسية للنظام، إلى المعارضة التاريخية للمجتمع، باعتباره غوغاء، قطيع، رعاع أو كما وصفه بوكروح بذاته ذات مرة بـ”الغاشي” واصفا المجتمع في شاكلة حضوره في مسرح التاريخ بالشارد وغير الشرعي!
وفي ظل هكذا حيدة عن مسار المعارضة، عبر تقديم نقد المجتمع على نقد السلطة أو الدولة أو النظام، جعل المنظومة الدلالية لمفهوم ومصطلح المثقف السياسي أو المسيس تختل في المعنى والمبنى في المحتوى والمضمون في الشكل والوظيفة لدى الشارع السياسي الجزائري، من هنا تتبدى وتظهر بجلاء أصول الخيبة النخبية السياسية لهذا البلد الذي يفرض مجتمعه بأثقال أو حتى أسمال تجربته التاريخية، نفسه على كل سلطة عقل سياسي وسياسي عاقل، ولا يقبل أبدا بأن يُتجاوز في هذا النطاق أو يتم استيعابه في مشروع لا يقوم أو لا يستقيم على تجربته تلك ومن هنا يمكننا تلمس سلطة المجتمع تلك باعتبارها أساسا للوجود الوطني تقابل الأساس السلالي للتجارب الملكية القبلية والاسرية منها التي حكمت و تزال بتأييد وتأبيد من الاستعمار في كامل أنحاء العالم العربي.
هي إذن خيبة العقل السياسي لبعض نخب التغيير سوء منها من تقدم في التاريخ (تقدمي) أو تأخر (رجعي) في الاستجابة لشرط المجتمع الجزائري الأساسي في استيعابه داخل مشروع سلطة الدولة أو دولة السلطة، وكل المواثيق والاتجاهات والبرامج التي أعدت في هذا الاتجاه لاقت الفشل لأنها ظلت فوقية طافية على سطح تجربة هذا المجتمع المكنوزة المركوزة في أعماقه والتي وحدها فقط من سيمكن من بناء مجتمع الدولة الحقيقي الذي تأمله الأجيال منذ أن وعت بالمسألة الوطنية ومقتضيات تحررها الحركة الوطنية نهاية القرن الفائت إلى غاية الحراك الشعبي الذي ليسه أكثر من مرحلة من مراحل ممارسة المجتمع لسلطته في مسار إعادة التشكل الوطني للدولة.
لكن طبيعة النخب المثقفة بالسياسة أو المسيسة بالثقافة في الجزائر، تؤكد استحالة، على الأقل على المدى القصير، أن تقبل بأي دور رياد طلائعي للشعب وبالتالي فهي غير مؤمنة بمرجعية المجتمع كتجربة أساسا للكيان الوطني، وتريد بذلك أن تقوده (المجتمع) ليس في مستقبله فحسب، بل وفي ماضيه أيضا، وهذا من خلال شرط القطيعة مع هذا الماضي والانولاد مجددا من رحمها هي، أي تلكم النخب، باعتبار ذلك قد يحقق العبور الأمثل والسليم من وهاد وأودية الخطر الانتمائي العقائدي أو الاثني، أو اللغوي الذي يضطرم في هذا المجتمع ويحول دون تحوله إلى دولة كما يستعيبه عليه نور الدين بوكروح في كل نقادياته لمسألة الوجود الوطني في الجزائر !
بشير عمري
تعليقات الزوار
لا تعليقات